نادراً ما يغرّد القضاة الأجلاء بأقلامهم خارج إطار القضايا والإثبات والشهود والدفوع وصدى كلمة الــــ "محكمة" الفاصلة، والمليئة بالأشجان وهموم العمل القضائي الذي يسعى فيه القضاة الفضلاء لتحقيق العدالة الناجزة التي هي عين اليقين، يضعها القضاة صوب أعينهم، بقلوب تنبض بقدسية الرسالة، وتذكّر بنبل الغاية، وتستشعر ثقل الأمانة وتفرد المكانة وعلو الهامة.
ولهذا؛ حين يمضي القارئ في رحلة معرفية ثرية، دافئة السطور، عميقة الأبعاد، محوكمة في جداريتها، متناغمة في معماريتها، من خلال كتاب (رحلة 30 سنة قانون) والذي صدر حديثاً عن دار النهضة العربية للقاضي المصري الجليل ورئيس محكمة الاستئناف المستشار الدكتور خالد محمد القاضي؛ لا يملك القارئ حينها إلا أن يقدّم حروف الشكر الخالصة لصاحب الكتاب بينما هو مستغرق بشغف في سفر القاضي العارف الأديب الحصيف وقد احتوى على بابين أدبيين كان الباب الأول عبارة عن إطلالة زاخرة وعامرة ترصد تأملات القاضي في رحلة التكوين الأولى بحروف أقرب إلى أدبيات حياتية منها إلى يوميات قاض، مؤكداً أن من يملك الرؤيا يملك الاستدامة والريادة، ويستطيع أن يجعل الأحلام والآمال مشاريع واقعية حقيقية؛ وهذه هي رباعية القاضي وعزيمته التي صاغها بأنامله المتمرّسة، وفكره المتقد، وقلبه الشغوف، ونفسه المقدامة... سأكون أديباً، سأكون إعلامياً، سأكون سفيراً للثقافة القانونية... ثم يمضي في إطلالات متفرقة ومتنوعة بين التكوين العلمي له، ومنصة القضاء، وإنتاجه العملي والمجتمعي؛ ليكون الباب وبحق (في حضرة البدايات الواعدة لرسالة العدل الراسخة).
وفي الباب الثاني؛ نجد المهام المتنوعة، والجهات العديدة التي أضاف لها القاضي الجليل غرساً طيباً، وساهم في ركائزها، لتكون حاضرة بألوانها ما بين قضائية وتشريعية وأكاديمية وتحكيمية ونيابية وتطوعية ومجتمعية؛ وهذا التنوع هو الإثراء الحقيقي للقاضي الموسوعي المعرفي الطامح نحو العدالة الناجزة، واليقين التام، والحق الثابت وصاحب رسالة سامية.
ويختتم أديبنا القاضي أو قاضينا الأديب مخطوطته المتميزة الاستثنائية بالعزيمة على (العيش في جلباب أبي) لأنها فعلاً منصة الثوابت والنوابت والقيم التي تجعل القاضي متميزاً على منصة القضاء المهيبة بالقيم والأصول وروح القانون.
جل التقدير والامتنان لمن أمتعنا في رحلة واعدة، بعيداً عن هموم القضايا والمحاكم والنزاعات ويقيني أن رفقاء الدرب في العمل القضائي بكافة درجاته وتخصصاته سيجدون في هذه المخطوطة النابضة فكراً وتخطيطاً وعلماً وعملاً ونهجاً وأسلوب حياة، سيجدون التحفيز الكافي للإبحار بإلهام خارج الصندوق القضائي، والتغريد في واحة الأدب الماتع والمفيد، فيكتبون ويرصدون ويوثقون التجارب الإنسانية القضائية، والرحلات الحياتية الناجحة، حتى تكون عنواناً للقضاء العادل، وشاهداً للقاضي الأمين، ودليلاً للعارف الرائد، ونموذجاً للجيل الواعد.