من دون مقدمات، لأن ما يحدث لا يحتمل التمهيد ولا التخفيف:
لكي يتم التعامي والتغافل والتجاهل لما أنتجته مصر القديمة — العظيمة — من حضارة وثقافة وروحانية على هذه البقعة المقدسة من الأرض، كان لابد من عملية غسيل دماغ ممنهجة، مؤدلجة، أدواتها ليست فقط التكفير والتحريم، بل أيضًا التحوير والطمس والاختزال. وتغييب الوعي.
بدأ كل شيء بتكفير مصر نفسها، وشيطنة تاريخها، وتحريم النظر في آثارها باعتبارها “رموزًا كفرية”، ثم جاءت المرحلة الأشد خطرًا: استباحة أرضها، وامتصاص خيراتها، والادعاء بأنها حلالٌ زلالٌ للمؤمنين الذين يمشون على الأرض وكأنهم ملائكة، بينما هم في الحقيقة يمارسون أسوأ أنواع الاستغلال والتشويه.
لقد تم اختزال عشرات آلاف السنين من الحضارة المصرية العريقة في صورة “فرعون الطاغية”، وكأن تاريخ مصر لم يكن إلا لحظة تمرّد على نبي الله موسي وكأن مصر لم تُنجب أنبياء، ولم تعرف التوحيد، ولم تضع أول منظومة أخلاقية في العالم القديم.
سحقا لفترة الاحتلال التي دامت علي ارض مصر ثلاثة الاف عام لم ينقذنا منها اللا إرادة الله وقت جلاء آخر جندي إنجليزي وطرد أخر المحتلين بأيادي ابناء مصر الذين يعيشون الان اضخم خطوات لاستعادة الوعي تحت قيادة ابن مصر البار السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي.
من مصر مرّ سيدنا آدم، وعاش سيدنا إدريس، وسارسيدنا نوح، وجاء سيدنا إبراهيم ليأخذ منها السيدة هاجر زوجة له، ومنها جاء سيدنا إسماعيل، أصل العرب وأب خاتم الأنبياء. سيدنا محمد صل الله عليه وسلم على أرضها عاش سيدنا يوسف، وفيها نشأ سيدنا موسى، وإليها لجأت السيدة العذراء مريم حاملة السيد المسيح، وعليها خطا آل بيت النبي محمد صلي الله وسلم خطاهم المباركة. وبها مجمع الأديان شاهد علي سماحتها وبها الكنيسه والمسجد والمعبد.
فأي أرض هذه التي يُراد لها أن تُختزل في فرعون فقط؟ وأي حضارة هذه التي يُراد طمسها باسم الدين، بينما هي من حملت أثمن جوهره في رموزها ونصوصها وأخلاقها قبل نزول الكتب السماوية؟
إن مصر لم تكن فرعونية بالمعنى المتداول اليوم لتشويهها بل كانت حضارة روحية وفكرية وفنية متكاملة، آمنت بالبعث، والخلود، والعدل، والميزان.
في كتاب الموتى، الفصل 125، نقرأ على لسان المتوفى في محكمة الآخرة:
«أنا لم أكذب، لم أسرق، لم أقتل، لم أرتكب الزنا، لم أظلم أحدًا، لم ألوث ماء النيل… قلبي طاهر، ولساني صادق، وقد جئت إليك يا رب الأرباب.»
وفي نصوص الأهرام:
«الله هو الواحد الأحد، الذي لا شريك له. هو خالق السماوات والأرض، خالق الإنسان، مانح الحياة، ورازق الخلق جميعًا.»
وفي صلاة مصرية قديمة:
«أيها الإله الخالق، يا من وجدت قبل أن يُوجد شيء، يا من خلقت الناس وجعلت لهم طريقًا للحياة… إليك أرفع قلبي، فأنت العادل الذي لا يخطئ، الرحيم الذي يسمع دعاء المضطهدين.»
هذه ليست نصوصًا وثنية، بل شهادات إيمانية، تسبق في روحها الكثير من صيغ التوحيد المتأخرة، وتدل بوضوح على أن المصري القديم لم يكن كافرًا، بل كان يبحث عن الله، وعن العدالة، وعن الخلود.
بل من العار أن تتهافت الأمم لتفخر بألف عام من التاريخ، بينما نحن نحمل عشرات آلاف السنوات من المجد ونخجل منها، ونغلفها بتهم الكفر والطغيان.
إن أخطر ما فُعل بمصر، لم يكن استعمارها من الخارج، بل الاستيلاء على وجدانها من الداخل. أن يُقال للمصري: لا تنظر إلى آثارك، لا تفخر بتاريخك، لا تذكر جدودك، وكأن فخره مهدد للسماء!
وهكذا، وباسم “النضافة العقائدية”، يُؤسَّس للتصحر العقلي، وللقطيعة بين الإنسان وأرضه، بين المواطن وتاريخه، بين الطفل وظله الحضاري. وكل هذا يتم باسم الله… والله بريء من هذا كلّه.
لكن مصر باقية.
أعظم من كل أيديولوجيا وافدة، وأقدم من كل فكر مشوّه، وأرسخ من كل خطاب عابر. مصر لا تختصر في “فرعون”، بل هي شعب آمن بالحق، وصاغ الجمال، وبنى المعجزات، ووضع القيم، وشهدت أرضه على النبوة والوحي.
من يُكفّر التاريخ، يُفجّر الحاضر، ويغتال المستقبل.
لكننا، كما علمتنا الحضارة المصرية:
لا نموت، بل نبعث.