طباعة
sada-elarab.com/578490
لقد تضافرت الظواهر الكونية على إحداث تشكيلات موسيقية تشدو بها الطبيعة وتترنم، مرددةً سيمفونية مسافرة في رحلة الكينونة والوجود، سيمفونية يتلقى عنها الإنسان وحي موسيقاه وغيبيات عالم الروح التي تتجسد واقعًا لحظة تتلامس مع نشوة الأوتار المتراقصة والإيقاعات المتراسلة، لحظة تسكنها فرحة التغني على خارطة الزمان والمكان، وهي متنسكة في رحاب قدسية التنغيم الصوتي، تتضرع إلى سماوات الإبداع بترتيلاتها اللحنية ودعاءاتها الفنية، رجاء أن تتهادى الإجابة مع صدق الدعاء وصفو العقيدة، وهنا يتبتل الجمال في ساحات الجلال، فيتقاطر من أعالي الجنان كوثرها الإبداعي الشفيف، ليسقي أزاهير الوجود بألحان الخلود.
ولعلنا لا نأتي بِدعًا حين نقول : إن الموسيقى تتراصف مع غيرها من الأجناس الفنية في طرق التعبير عن احتياجات الإنسان وترجمة آماله وآلامه، ولهذا وجد الإنسان البدائي حاجته الماسة للوصول إلى غايات الروح بإنعاش النفس وإمتاع السماع واهتزاز الوجدان، فكانت الممارسات الموسيقية التجريبية التي ارتأها جاهزة في معالم الطبيعة، ومن ثم سارع في تدشينها وتأطيرها، فمن العظام إلى أعواد الخشب, إلى النبات المجفف، إلى جذوع الأشجار الفارعة، إلى جلود الحيوانات التي شد بها الطبول ودق عليها الدفوف.
الموسيقى ركن ركين في البناء الكوني، ونبض حي في كيان الإنسانية، وهي البوصلة التي يُتعرف من خلالها على الاتجاهات الفكرية والحضارية للأمم والشعوب، وهي الترموميتر الذي يقيس درجة حرارة انفعال المجتمعات بالأطر الحضارية ومدى تكيفها مع تيارات الوعي والمثاقفة، فهي على حد تعبير الفيلسوف الألماني نيتشه " الحياة بلا موسيقى خطأ فادح ".
هذا، ولزميلنا وصديقنا الحبيب الفنان الكبير الدكتور أشرف عبدالرحمن من الطرح العلمي في سياق النقد الموسيقى ما يجعله في مصاف الصدارة والريادة في اتجاهات تنمذج إلى واقعية الواقع، وتاريخية التاريخ، وجدلية الجدل الفني، إذ هو في خطابه النقدي ينقلنا من الحضور الجزئي للحياة إلى حضور كلي باهر، مستمطرًا ما يتكاثف في سحب الخيال الغنائي الساحر وشعرية التوهج الصوتي والإيقاعي بما يحيي به الوجود النفسي والحياتي حسًا ومعنى، ولقد حقق زميلنا الدكتور أشرف عبدالرحمن في مطارحاته العلمية العلاقة الصميمية بين الصوت والمعنى، وصولًا إلى المعادل السمعي الجمالي، وقدرته على التجسيد باللمح والإشارة والإيماءة والتعبير والتطريب، وما يموج به من الإيحاءات والظلالات المعروشة بأعواد الإبداع والإمتاع.
ومؤخرًا تلقت الأوساط الفنية والعلمية خبر ترقية الدكتور أشرف عبدالرحمن أستاذًا مساعدًا للنقد الموسيقي بالمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، بكل بشر وحفاوة غامرة، لما لسيادته من سبق لافت في إدخال منهج البنيوية في تحليل ونقد الأغنية العربية، وكونه فنانًا فوق كونه أستاذًا، حيث أتيح له بذلك تكامل المركبات المنهجية القائمة على فكرة العلاقات المتشابكة والأطر المتداخلة بين النوافذ المعرفية المتعددة، وليس الحراك الجزئي المبني على الاستقلال والانعزال، وشتان بين الاثنين، وفي تقديري الشخصي أن التفكير الشبكي التعددي يتجاوز تقليدية التقييم والحصر في ثنائية الصواب والخطأ إلى حيث يحتقب في طريقه الوحدوي والجماهيري، والبياني والعرفاني، والعقلاني والتخييلي، إذ هو لا يقنع بالفكرة الثابتة المستقرة والمجردة، وإنما يسعى إلى تكسير هذه الفكرة وتغييرها والإغارة عليها دومًا تجديدًا وتحديثًا، فاتحًا الآفاق على إمكانات المعرفة لا نهايات المعرفة.
وأنا إذ أقدم لصديقي التهنئة في مزهرية ورد بمناسبة هذه الترقية المستحقة بصفتي أخًا وزميلًا لسيادته، ففي ذات الوقت ذاته كان لزامًا عليّ أن أقدم رؤيتي النقدية - وفق ما يقتضيه السياق المقالي - حول أبحاثه العلمية بصفتي ناقداً، ومن ثم فإن أبحاث الدكتور أشرف عبدالرحمن تتوزع في ساحات المشهد الموسيقي قديمه وحديثه سعيًا إلى تحايث الماضي مع الحاضر، ورفع مستوى التثاقف بين التراثية والمعاصرة، وتدامج الواقع بالمستقبل، وبداءةً يطالعنا بحثه الرائق " تراث الموسيقى العربية بين الاستلهام والاندثار "، وفي هذا البحث تنفتح المدة الراهنة على المدى الزماني السابق استقراءً لظواهر التأثير والتأثر، وكتابة تاريخ لمفاهيم الجمال والفن والزمان، تاريخ ما تزال أضواؤه الملهمة تلتمع في كيان الوعي الجمالي العربي، استدعاءً للتقاليد الجمالية المرئية واللامرئية الكامنة في بنية الموروث العربي العريق.
ثم يأتي بحثه العميق " نظرية الاتصال والاستفادة منها في نقد الموسيقى العربية "، والحقيقة أن النقاد يتفاوتون في التقعيد لنظرية الاتصال والتلقي تفاوتًا كبيرًا، وأنا أرى أن الأمر مرتبط بقوة الضبط المنهجي لدى الناقد من ناحية، وثراء آفاق التلقي الجمالي والمعرفي لديه من ناحية أخرى، مُضافًا إليهما كثافة العمق الثقافي والتوعوي للواقع الحضاري الذي يعيشه، لأن المنتج الفني مشروط بظروفه الاجتماعية والتاريخية وبيئته الحاضنة، بوصف هذا المنتج فضاءً اجتماعيًا جماليًا ومعرفيًا يرتبط نماؤه بالممارسات الفلسفية والمعرفية والتجريبية والمستقبلية، وأرى أن الدكتور أشرف عبد الرحمن قد سعى بحرفية إلى تجسير العلاقات بين الحقول الاجتماعية والنقدية والسياسية والفلسفية وبين حركة التخليق الموسيقي بكل مشتملاته، حتى لا يتخاصم الفن مع مرجعيات العلم، أو تتعالى سواعد النقد النظري وتترهل في مقابل ضمور حركة الفن والإبداع.
وتأتي المدونة العلمية كاشفة عن الدور الغنائي الناهض في دعم ثقافة الانتماء وتثبيت جذور الأصالة والهوية القومية، وذلك في بحث " دور الغناء كمادة إعلامية في ترسيخ روح المواطنة والترابط العربي عبر الإذاعات العربية منذ القرن العشرين "، وهو بحث توجيهي تأصيلي تحليلي يرصد الحالة الغنائية وأصداءها في إلهاب الشعور الجمعي العربي، وكيف كانت الأغنية العربية توثيقًا حيًا للمعتركات الوطنية والتحولات القومية الكبرى، وأثرها الفاعل في الحفاظ على مقومات الوحدة العربية، ثم يجيء بحثه النقدي الدقيق علامة على سياق الخصوصية الجمالية والحوار بين الماضي والقائم والقادم، ألا وهو " جدلية العلاقة بين الشباب العربي وتراثه الموسيقي وكيفية أن يكون التراث لغة معاصرة ومستمرة ".
وفي هذا البحث – سالف الذكر – يفتح الدكتور أشرف عبد الرحمن أبوبًا وسيعة حول الواقع والذات والفن والتاريخ والتقاليد بدلًا من التلقي السلبي الاجتراري لمفهوم التراث، حيث يواجه الباحث الواقع الفني الذي آثر منطقًا فكريًا فقيرًا من الحسم والاتساق، لكن الباحث وهو معني بمبدأ بناء الشخصية على كل الأصعدة، فقد كان صادقاً وواعيًا في ندائه إلى إعادة بناء منطق جدلي يثمن منطق النشاط والقلق الفني والمغامرة الإبداعية بصورة عميقة لا ينتهي لها قرار، وهنا تحتشد كل أدوات الباحث ليحيل الغائب إلى الحاضر، ويستنطق بناء التاريخ الموسيقي العربي المؤجل والصامت، لسد فجوات التاريخ، وانقطاعات الهوية، ومفاصلات الشخصية، واغترابات الذات، وعذابات التفكك العربي الحضاري بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهذه القضية الملحمية تبناها الفنان الدكتور أشرف عبدالرحمن، وده من ذلك رسم حركة الوعي العربي للإمساك بهويته الذاتية الخاصة بفعل التردد الحواري بين موسيقى المكان وموسيقى الزمان، لأن أحدهما يمنحنا فكرة الإحساس والآخر يمنحنا الإحساس ذاته، وبهذا تتعاطى الموجودات والأشياء والمعاني وجودها المتجدد على الدوام .