طباعة
sada-elarab.com/544471
اعتاد استاذي البروفسور جون بول شارنيه على تكرار مقولة اغريقية ترجمتها "الفكر الناعم يتسلل ويبقى والجرح القاتل يميت ويولد الانتقام" في اشارة الى جدارة دبلوماسية النفوذ الناعم وبؤس الاقتتال. نذكر ذلك لأننا نتجاور مع قوى اقليمية عدة، ليست على وئام مع امننا القومي العربي، وهو جوار لا نملك الانفلات منه وتحكمه الجغرافية السياسية، وهذه القوى الاقليمية تشترك معنا في التاريخ والحضارة والعيش المشترك مثل تركيا وايران واثيوبيا وقوة اقليمية رابعة مارست وما زالت العدوان والاحتلال على حقوقنا العربية وهي اسرائيل.
وطالما تستمر اسرائيل في مصادرة حقوق الشعب الفلسطيني، ولا تتجاوب مع مبادرة السلام العربية، فهي تقصي نفسها من دائرة الجيرة الاقليمية الحسنة. وستجد دولنا العربية عاجلاً ام اجلا نفسها مدعوة للتعايش المشترك والبناء مع بقية جيرانها، فإذا كانت تركيا وايران قد اشتركتا مع العرب في تشييد اركان الحضارة الاسلامية وكتابة تاريخها وازدهار علومها، فإن اثيوبيا (الحبشة او اكسوم) هي الجارة التي نصح النبي (ص) اصحابه باللحوء اليها هربا من ظلم قريش مادحًا ملكها "أصحمة النجاشي" بأنه مَلِكٌ لا يُظلَم عنده أحد، وهو ما يتوجب علينا اصلاح ما فسد وإعادة ادماج اثيوبيا الاقليمي مع العرب.
كيف يتسنى لنا في ظل الاحتقانات السياسية الاقليمية والخلافات والتدخلات المباشرة في شؤوننا العربية واستخدامات النفوذ المسلح، اختراق حصار الاحتدامات للوصول الى لغة التفاهم والتعايش بالاستناد الى التاريخ الحضاري المشترك والجيرة الحسنة؟ ليست هناك، في تقديرنا، لغة افضل اليوم من لغة المصالح والامن الجماعي وتنشيط التعاون والتبادل والتكامل والمشاريع المشتركة، ولن يتحقق ذلك دون ممارسة كل خبرات الدبلوماسية الناعمة ومستجداتها. إن استخدام الدبلوماسية الثقافية يعزز لغة المصالح والاستثمارات وهذه الدبلوماسية كفيلة بفتح الابواب المغلقة، وتفعيل لغة المنافع في مجال العلاقات الاقليمية .
عرف عالمنا بعد الحربين العالميتين الدمويتين، الحروب الباردة والحروب بالوكالة والحروب الاهلية والحروب ضد الارهاب والحروب السيبرانية وتجاوزها ليمعن بالحروب الاقتصادية للهيمنة على سوق المواد الخام والمصنعة والمنتجات الالكترونية وخزائن المعلومات الرقمية. وعرفنا نوعين من التأثير ومد النفوذ، النفوذ المسلح والاستعمار المباشر باستخدام العنف والنفوذ الناعم بشبك المصالح والاستثمارات التنموية .
مارس الغرب عامة كل اشكال النفوذ المسلح في بلداننا، وبدأ الشرق ممثلاً بالصين طريقة استخدام النفوذ الناعم، وقد ساعد الصين في تقبل الدول لمشاريعها الاستثمارية عدم وجود ماضي استعماري لها، وتدلنا نظرة بسيطة على الاستثمارات التنموية الصينية في افريقيا على جدية النفوذ الناعم وجدارته.
لا يدرك الكثيرون مدى التمدد الصيني في آسيا وافريقيا وحتى اوروبا، فبعد أن أنشأت الصين مجموعة من الموانئ ومحطات التزود بالوقود على طول المحيط الهندي، تقوم ببناء موانئ على طول ساحل بحر عمان، مثل ميناء جاسك الايراني عند مدخل الخليج ، وهو موقع يشرف على مرور النفط، وميناء دوراليه المطل على البحر الاحمر عند بوابة جيبوتى، واستناداً الى وزارة النقل الصينية، ساهمت الصين في بناء وتشغيل ما مجموعه 42 ميناء فى 34 دولة مما يجعلها مؤهلة للتحكم بطرق التجارة الدولية.
قدمت الصين الى افريقيا60 مليار دولار من الدعم المالى، بما فى ذلك خطوط الائتمان والمنح وتمويل الاستثمارات، الى جانب تقديمها لغانا الواعدة بتدفق النفط والغاز قروض للبنية التحتية بقيمة 20 مليار دولار أمريكي مقابل تطوير مشاريع البوكسيت والألومينا من قبل شركتي "هنان الدولية" و"الصين للاستثمار". وقامت شركة السكك الحديدية الصينية باستثمار 12 مليار دولار أمريكي لبناء خط سكة حديد بطول 1402 كيلو متر على طول ساحل نيجيريا لربط لاغوس بكالابار. كما وقعت الصين اتفاقية مع ليبيريا بقيمة 2.5 مليار دولار أمريكي لشراء الموارد الطبيعية مقابل بناء الطرق والبنى التحتية لإمدادات الكهرباء، واستنادا الى السفير الصيني لياو لي تشانج تنشط في مصر 1560 شركة صينية تبلغ حجم استثماراتها 7 مليار دولار. وعقدت الصين عشرات الاستثمارات الاخرى التي تفتح الطرق الافريقًية لكي تستكمل الصين مبادرة "الحزام والطريق" التي تشترك فيها اكثر من مائة دولة بتكلفة تريليون دولار في مجال البناء والاستثمارات.
تلك هي نماذج فقط للنشاطات الصينية، وهي نماذج تنموية كما نرى وتتم بهدوء دون ضجيج اعلامي، اشرنا لها لنبين مدى فاعلية النفوذ الناعم اذا اتجه نحو تعاون بناء بين الدول يحقق المصالح المشتركة وتعم فائدته الجميع، وليس بمقدورنا تنزيه هذا النفوذ من مغبة التنافس على صناعة القرار الدولي .