طباعة
sada-elarab.com/544316
لقد أثَّرت جائحة كورونا على جُلِّ القطاعات الحيوية التي تقوم عليها أعمدة أيِّ دولة؛ فتأثَّرت مثلًا: التجارة، والصحة، والقضاء، والاقتصاد، والصناعة، والتعليم؛ لكن ممَّا قد لا يعلمه البعض أنَّ من جملة تأثير هذا الوباء ما كان على مسائل الأحوال الشخصية، فلم تسلم هي الأخرى من التأثر؛ فحتى وإن اعترفنا أنَّ جائحة كورونا كانت منحة وليست محنة للبعض، ولكننا نحن نتحدث الآن عن الأغلب الأعمِّ من تأثيراتها.
ولقد كان أحدَ هذه المسائل المذكورة ذاك التأثير الذي أُطلِق عليه "الاختطاف الدولي للأطفال"؛ فها هي دعوى قضائية رفعها أبٌ نيجيري مكلوم أمام كلا القضاءين الكندي والنيجيري مُطالبًا فيها بعودة طفلتيه اللتين نُقِلتا من دولة نيجيريا إلى مقاطعة أونتاريو الكندية، بعدما قَدِموا إلى هذه المقاطعة بصحبة والدتهم، رغم عدم موافقة الأب -حسب ما ورد بدعواه- طالبًا من القضاء الكندي أن ينظر في دعواه على وجه الاستعجال، في الوقت الذي علَّقت فيه المحكمة عملها المعتاد، كأحد تبعات انتشار فيروس كورونا.
وما كان من المحكمة إلَّا أن رفضت وجه الاستعجال الذي طالب به الأب؛ كون الأطفال يعيشون مع والدتهم بالفعل، ناهيك عمَّا فرضه تفشي فيروس كورونا من قيود على السفر وحرية التنقل بين الدول، وغير ذلك من التدابير؛ كالحجر الصحي، وإغلاق العديد من شركات الطيران، ومن ثمَّ تعليق الرحلات الجوية، بل وغلق العديد من المطارات نفسها، وهو "ما يمنع الرحلات الجوية من مغادرة الدولة من الأساس".
وأشارت المحكمة إلى أنَّ هذا لم يكن "الوقت المناسب" لسماع مثل هذا الاقتراح، حتى وإن رأت المحكمة أن سفر الأطفال من دولة إلى أخرى لم يكن هو الحلُّ الأفضل لهم، ورغم تفهمها حرص الأب الشديد على المضي قدمًا في التحرك السريع كي لا يفقد طفلتيه؛ لذا ارتأت المحكمة أنَّ الوضع وإن كان مقلقًا بالنسبة للأب -بلا شك- إلَّا أنَّ مجمل الوضع نفسه غير مُواتٍ لطلبه كي تُنظَر دعواه على وجه الاستعجال.
ولعل ممَّا عزَّز توجُّهَ المحكمة إلى ذلك توقُّعُ القاضي أنَّ الأم تقوم ببذل كلِّ جهد معقول لضمان قدرة الأطفال على التحدُّث مع الأب بانتظام عبر Skype، أو FaceTime، أو الهاتف، أو أية وسيلة أخرى.
وأردفت المحكمة القول بأن القضاة ليس لديهم في الوقت الحالي إمكانية الوصول إلى الملفات المادية (الورقية) المقدَّمة، وبالنظر إلى عدم وجود وحدات لتخزين ملفات محاكم الأسرة إلكترونيًّا -التي رُفع إليها النزاع- في الوقت الحالي؛ فقد أشار رئيس المحكمة إلى أنَّ "المحكمة تتوقع من الأطراف تقديم مستندات موجزة في الدعوى بالقدر الذي يسمح لها فقط بالتصرف العادل في الوقت المناسب، واشترطت ألَّا تجاوز المستندات المرسلة عبر البريد الإلكتروني مساحة 10 ميغابايت فحسب، وشدَّدت على أهمية بذل كل جهد لتكون بهذه المساحة، وبخاصة أنَّ طرفي هذه الدعوى تحديدًا قد قدَّما مستندات كثيرة ومتنوعة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ مسألة تقديم مستندات موجَزة -بل والتقاضي الإلكتروني في عمومه- من الأمور السائدة والمطبَّقة في القضاء الأنجلوسكسوني بوجه عام منذ فترة، وليست قاصرة على زمن الكورونا فحسب، بل من قبله، وهي فرصة ثمينة ننتهزها لنؤكِّد من خلالها إمكانية بل حاجة القضاء المصري لإدخال مثل هذه التوجهات حيز التطبيق العملي في ظلِّ ما تقابله هذه التوجهات من معارضات تذرُّعًا بحقِّ الدفاع، وهو قول في غير موضعه؛ فموقف القضاء الأنجلوسكسوني في هذا الشأن أولى بالاتباع لحاجتنا الماسة إليه.
وإجمالًا: فلا شك أنَّ تصفح هيئة المحكمة لمستندات كلِّ قضية تصفحًا إلكترونيًّا عوضًا عن المستندات الورقية المتعددة شأنٌ يوازن بين عدة معايير؛ في مقدمتها: انتظام سير مرفق العدالة، والالتزام بالتدابير الاحترازية الصحية لمكافحة العدوى، والحفاظ على الأرواح وعلى وقت هيئة المحاكم، في ظل اشتراط أن تكون المستندات المرسلة بمساحة إلكترونية محددة، وهو توجُّه يواكب التكنولوجيا في تقديم الأدلة والمستندات، وفي الوقت نفسه يُخوِّل الأطراف الحقَّ في تقديم أهم ما يُثبت ادعاءاتهم وهم في أماكنهم، ويتفق مع ما فرضه انتشار الوباء من تباعد اجتماعي، وكأن التكنولوجيا في حدِّ ذاتها قد جاءت لتُعجِّل بإيجاد بعض الحلول للخروج من الجائحة.
وهكذا تتفق التكنولوجيا مع جائحة كورونا في وجهين؛ فكلاهما لم يتركا مجالًا إلَّا واقتحماه وأثَّرا عليه بقوة، سواء أكان سلبًا أم إيجابًا.
مدرس القانون الدولي الخاص كلية الحقوق - جامعة القاهرة