عربي وعالمي
29عاما على رحيل الشيخ عبدالله مبارك الصباح.. تجليات الوجه التنويري لرجل مرحلة النهضة الكويتية
الإثنين 15/يونيو/2020 - 12:40 م

طباعة
sada-elarab.com/528255
تحل اليوم الذكرى التاسعة والعشرين لرحيل الشيخ عبدالله المبارك الصباح أصغر وآخر أنجال الشيخ مبارك الكبير.. وأطولهم حياة، ففي يوم 15 يونيو 1991 طويت صفحة من صفحات التاريخ الكويتي المشرقة التي شكلت البناء الحقيقي للتاريخ الكويتي الحديث والنهضة الهائلة في كافة مفاصل الدولة.. لما كان يملكه ذلك الرجل من طاقة هائلة على العمل وامتداد مذهل من العلاقات.. ووقوفه على رأس مؤسسات الدولة.. فقد شهدت الكويت في عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين وضع الدعامات التنظيمية الأولى للنهوض بالبلاد على مختلف الصعد، فكانت من أخصب الفترات التي هيأت لانطلاق النهضة الثقافية والتنظيمية الشاملة. وشاء الله أن يتسلم الشيخ الشاب عبدالله المبارك الصباح (1914-1991) في تلك الفترة مناصب قيادية مفصلية، مكّنته من لعب دور محوري، مهّد له الطريق لتحقيق طموحاته في تسريع مسيرة التقدم الكويتية؛ فمنذ بداية الأربعينيات، تعددت مسؤولياته في مواقع رسم السياسات العامة للبلاد، فشغل منصب رئاسة دائرة الأمن العام في العام 1942 بالإضافة إلى مسؤوليته عن شؤون القبائل، ما وفّر له العمل والإشراف على تأسيس الجيش الكويتي، الذي أصبح قائداً عاماً له في العام 1954. وترأس في العام 1947 جلسات مجلس المعارف لسنوات تواصلت حتى العام 1960، فأشرف على عملية التوسع الهائل في التعليم، وعلى إرسال البعثات التعليمية إلى مصر ولبنان وبريطانيا وغيرها. وفي العام 1951 أشرف على إنشاء ميناء الأحمدي. ودعم في العام 1952 إنشاء النادي الثقافي القومي كتجمع للمثقفين والأدباء، وتولّى رئاسته الفخرية.
وشغل الشيخ عبدالله المبارك منصب نائب الحاكم لفترات عديدة، وهو أول من أسس إذاعة الكويت وتولى رئاستها من العام 1951 حتى العام 1960. وكان له الفضل في العام 1953 في تأسيس نادٍ للطيران، صار فيما بعد النواة الأولى للقوة الجوية الكويتية. واختير في العام 1958 عضواً في المجلس الأعلى الذي شكّله سمو أمير البلاد آنذاك الشيخ عبدالله السالم لوضــع السياســة العامــة للبــلاد والإشراف عــلى تنفيذهــا. وتسنّم في تلك الفترة مهمة إدارة شؤون الجوازات والسفر والجنسية.
مرتكزات كثيرة وعديدة وضعها هذا الرجل شكّلت مفاصل مستقبل دولة الكويت، الذي بات حاضراً يعيشه المواطن والمقيم والزائر؛ فأنت تدخل أو تخرج من الكويت عبر مطار هو من أشرف على تأسيسه وتطويره وتدريب طياريه، وتتعامل بجوازات سفر هو أول من أصدرها. وفي الداخل تعيش الأمن والأمان بفضل مؤسستي الجيش ووزارة الداخلية اللتين وضع نواتيهما في الخمسينيات من القرن الماضي. وعندما تفتح الراديو أو التلفزيون تتذكّر أنه من أسّس لقيامهما. ولعلك تنسى حين ترسل أولادك إلى المدرسة أنه من سعى، وبشكل حثيث، لتطوير التعليم والتوسع في إنشاء المدارس ونشرها في مختلف مناطق البلاد. وتراك تطالع الصحف والمجلات العديدة، وتتابع دعوات الأندية والهيئات الثقافية الكثيرة، من دون أن تعرف أن قيادته لـ (إدارة المعارف) في تلك الفترة هي ما مهّد الطريق لصدور الصحف والمجلات، وإصدار أول قانون للمطبوعات في تاريخ البلاد، وتأسيس العديد من المنابر الثقافية، وهو.. وهو.. الخ.
نعم.. لقد وقف الرجل وراء إنجازات وطنية كثيرة، تمتّع ويتمتع بها المواطنون والمقيمون على حد سواء. وشخصٌ من هذا الطراز تمتلئ الكتب عادةً بذكره، ويُحتفى به كرمز، في غير ميدان وبأشكال مختلفة. بيد أن الصدمة سرعان ما تتلبّس المرء حين يطالع كتب التاريخ الكويتية، في مختلف المجالات، فلا يجد ذكراً لهذا الرجل. وإن وجد فهو خجول وباهت ومتسرع، خلا ما أثبتته الدكتورة سعاد الصباح في غير كتاب عن حياة هذا الرجل ومنجزاته.
لن نبحث عن السّر، ولن نجتهد في فك مغاليق هذا اللغز، كما لن نتحدث عن كل إنجازات الرجل، بل سنحاول تلمّس رياداته في المجال: المعرفي، الثقافي، التنويري فقط.
لقد قُدّر للشيخ عبدالله المبارك رحمه الله أن يتولى دفة القيادة، كرئيس لدائرة الأمن العام ورئيس لدائرة المعارف ونائب للحاكم في فترات عديدة، خلال فترة تغيرات عاصفة، حملتها رياح الحرب العالمية الثانية، وهدير تدفق النفط بكميات تجارية دغدغت أحلام الشباب الكويتي وطموحاته. فقد خلخلت الهجرات المفاجئة والمتسارعة إلى الكويت، بما حملته من ثقافات وقيم غير مألوفة، النسيج الاجتماعي والفكري. وزاد في ذلك انفتاح الكويتيين في ذلك الوقت على العالم الخارجي بشكل غير مسبوق. وكان لا بد أمام الانفتاح الثقافي والفكري أن يتم استيعاب وتنظيم وتوجيه التطلعات الشبابية الجديدة، وهذا ما عمل عليه الشيخ عبدالله المبارك على غير صعيد.
النادي الثقافي القومي
استشعر الشيخ عبدالله المبارك أن الحاجة باتت ملحة لإنشاء كيان يحتضن الأدباء والمثقفين الكويتيين، الذين أخذ عددهم بالتزايد وطموحاتهم بالاتساع. ولمس ضرورة إيجاد متنفس يتيح لهم التعبير عن آرائهم ومواهبهم. وساعده على ذلك ازدهار الوضع الاقتصادي ونمو الوعي الاجتماعي. ولذلك، ما إن تقدم عدد من المثقفين بكتاب إليه طالبين الموافقة على تأسيس نادٍ باسم "النادي الثقافي القومي" وأن يكون هو رئيساً فخرياً له، حتى وافق على طلبهم، وأشاد بمبادرتهم، بل شجعهم على المضي قدماً، وأكد أنه سيكون سنداً قوياً لهم.
كان أول مقر للنادي "في بيت عبد الله العوضي، الذي استأجره النادي، وأما قيمة الاشتراك للعضو فكانت خمس روبيات، وقد كان للنادي دور قومي وثقافي، وبخاصة في القضايا العربية مثل حرب السويس 1956، حيث كان هناك تحرك شعبي ضد الإنجليز أدى في النهاية إلى إغلاق النادي، لكن أعيد افتتاحه بعد أن سعى إلى ذلك نصف اليوسف وعبد الحميد الصانع، وكانت لجنة تأسيس النادي تتألف من: يوسف إبراهيم الغانم، د.أحمد الخطيب، أحمد زيد السرحان، محمد السداح، يوسف البدر، أحمد السقاف وعبدالعزيز أحمد العيسى".(1)
وقد مثّل النادي في ذلك الوقت "مركز استقطاب للفئات والقوى الاجتماعية الجديدة في المجتمع الكويتي. وتركزت أهداف النادي على إحياء القومية العربية والاعتزاز بها، والعمل على تمكين العرب من حقوقهم ونشر الوعي القومي بين الشباب العربي في الكويت"(2). وشهد النادي ما بين عامي 1952-1959 "نشاطاً بارزاً على امتداد مسيرته من خلال تبنيه القضايا القومية والديمقراطية، حيث ساهم مساهمة كبيرة في تطوير الوعي السياسي والديمقراطي لأبناء الكويت عن طريق المحاضرات والندوات، أو عن طريق التجمعات الشعبية، أو عن طريق صحافة النادي التي لعبت دوراً كبيراً في تنمية الوعي القومي لأفراد المجتمع الكويتي"(3).
وأسهم في تكريس فعالية النادي إصداره مجلة شهرية حملت اسم (مجلة الإيمان)، تألفت أسرة تحريرها من: أحمد السقاف، وأحمد الخطيب، وعبدالله يوسف الغانم، وعبد الرزاق البصير، ويوسف إبراهيم الغانم، ويوسف المشاري. وخصصت المجلة باباً للأدب، وفتحت المجال أمام مقالات تبحث تطلعات الشباب وقضاياه، كما كرست باباً اهتم بالعلوم ورصد آخر ما توصلت إليه من إنجازات.
وفي العام التالي ألحق النادي بالمجلة نشرة مستقلة حملت اسم (ملحق الإيمان)، وصدر عددها الأول يوم الجمعة 16 أكتوبر 1953. وتم تخصيص الملحق لمناقشة القضايا المجتمعية المحلية، والإطلالة على القضايا القومية، ونشر الشعر، ومتابعة أبرز الأخبار على الساحة الكويتية. و"كان النادي يُمنح معونة شهرية من إدارة المعارف قدرها خمسة عشر ألفاً من الروبيات" (4).
النادي الأهلي الرياضي
آمن الشيخ عبدالله المبارك بأن الرياضة لا تقل أهمية عن التعليم والقراءة في صقل شخصية الجيل الشاب، ورأى فيها الدواء الأنجع لاستثمار أوقات الفراغ، خصوصاً بعد الطفرة النفطية وما صاحبها من فوران في أحلام ذلك الجيل وتطلعاته وطموحاته. من هذا المنطلق، دعم وشجع فكرة طرحها عليه (مجرن الحمد) بخصوص إنشاء نادٍ رياضي، فظهر إلى الوجود النادي الأهلي الرياضي في العام 1949 "في منطقة (قبلة)، وكان مقره في ديوانية الحمد لأن النادي من فكرة مجرن الحمد في حين كان الرئيس الفخري للنادي هو الشيخ عبدالله المبارك الصباح"(5).
بعد ذلك تم تأسيس (فريق المعارف لكرة القدم) من مدرسي دائرة المعارف وبعض طلاب المدرسة المباركية الثانوية، كما تم تأسيس أندية: (العروبة)، و(الخليج العربي)، و(الشرقي)، و(الجزيرة)، و(الخليج العربي)، و(التعاون الرياضي) وغيرها. ونتيجة تعدد الفرق الرياضية تم تنظيم أول دوري رياضي في الكويت أواخر العام 1951، وتواصل حتى فبراير من العام 1952.
وأمام هذا الانتشار الواسع للأندية برزت الحاجة إلى إيجاد هيئة تشرف عليها وتنظّم أنشطتها، فتدارس مجلس المعارف المسألة، وقرر في العام 1952 تأسيس الاتحاد الرياضي الكويتي، الذي تألفت لجنته الإدارية آنذاك "من مندوب عن كل نادٍ من الأندية الستة المذكورة ومندوب عن فريق المعارف. وكان مركز الاتحاد في المدرسة المباركية"(6). وهكذا دخلت كرة القدم في المجال الاحترافي والمؤسسي. ولتنمية اللعبة وتحفيز المنتسبين لها والقائمين عليها تكفلت دائرة المعارف "بمساعدة الاتحاد مادياً وأدبياً، وقررت دعمه بإعانة سنوية، ثم تولى رعاية الاتحاد دائرة الشؤون الاجتماعية وانضم إليه العديد من الفرق والأندية الرياضية، كما كان له مجلس إدارة يتألف من ممثلين عن الأندية المشاركة في الاتحاد"(7).
وتشجيعاً للفرق الرياضية "كان الشيخ عبد الله المبارك يرسل إلى تلك المباريات فرقة من رجال الأمن العام أو الجيش الكويتي وكذلك الفرقة الموسيقية التابعة للأمن العام، والتي كانت تعزف مقطوعات موسيقية أثناء حضور الشيخ عبد الله المبارك لمباريات البطولة أو مباريات منتخب الكويت مع الفرق الخارجية"(8). وما لبث أن انضم الاتحاد الكويتي إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم في العام 1962، وإلى الاتحاد الآسيوي في العام ذاته.
التعليم
أولى الشيخ عبدالله المبارك رحمه الله التعليم أهمية خاصة خلال رئاسته مجلس المعارف (1947-1960)، "فقد نظر إلى التعليم باعتباره أداة تأهيل لجيل جديد من الكويتيين لإدارة مرافق الدولة بعد الاستقلال ولقيادة جهود التنمية فيها. لذلك، فقد اهتم بالتعليم على كافة مراحله وخصوصاً تعليم البنات، وبأنشطة التربية الاجتماعية والرياضة المدرسية.. كما شجّع إرسال البعثات العلمية إلى الخارج"(9). وكان ذلك كرئيس وعضو المجلس الأعلى للمعارف، الذي أولى له قانونه التأسيسي مهمة "رسم خطط المعارف وسيرها، والبتّ في مناهج الدراسة، وتعيين مديري المدارس، وتقرير شؤون البعثات، واختيار المرشحين لها، ووضع اللوائح القانونية والأنظمة الخاصة بإدارة المعارف"(10).
وعليه، مضى الشيخ قدماً في بناء المدارس واستقدام المعلمين والمعلمات العرب والمتميزين من الإداريين في مجال التعليم.
لقد آمن منذ البداية بأن التعليم هو أساس النهوض بالكويت في مختلف المجالات، فنشط في مجال بناء المدارس لمختلف المراحل التعليمية، وتدعيم احتياجاتها وتطوير مناهجها ونظمها. ولم يكتف بالدعم الحكومي الذي وفّره تدفق النفط في تلك الآونة، بل كان يساهم في ذلك من حر ماله. ويسجل له التاريخ أنه تبرع في العام 1959 بنحو ثلاثة آلاف متر مربع من أرضه الخاصة قرب قصر دسمان لإنشاء مبنى الصحة المدرسية. هذا عدا عن اعتياده تفقد المدارس والمعلمين والطلبة شخصياً من خلال زيارات ميدانية متكررة. وبذلك قفز عدد المدارس من 19 مدرسة في سنة 1948 إلى 65 مدرسة في العام 1956.
وشهد العام 1953 قفزة نوعية في التعليم في الكويت، إذ تم افتتاح مدرسة ثانوية الشويخ كأضخم ثانوية في الشرق الأوسط وقتذاك. وتعود قصة هذه المدرسة إلى سنة 1950 حين طرح سمو الشيخ عبدالله السالم الصباح على أعضاء مجلس المعارف فكرة إنشاء مدرسة ثانوية عصرية لاستيعاب أعداد الطلبة الآخذة بالتزايد وبوتيرة متسارعة، وبعدما استحسن الأعضاء الفكرة وأيدوها، أوكلت مهمة البناء والتجهيز لرئيس مجلس المعارف الشيخ عبدالله المبارك، الذي وجد فيها فرصة لتحقيق جزء من طموحاته. وما لبث أن بدأ الشيخ يعد العدة لمدرسة أشبه ما تكون بالخيالية وفق مقاسات ذلك الوقت. رسم في مخيلته المزايا والمواصفات، وسارع في استقدام أفضل المصممين والمخططين، وأمهر شركات البناء. ويوماً بعد يوم، وعلى مساحة بلغت نحو 2.5 مليون متر مربع، بدأت تتكشف معالم تحفة معمارية وصرح تعليمي غير مسبوق. وبعد أكثر من عامين انقلب الحلم إلى حقيقة، فإذا بالمدرسة الثانوية المنتظرة تتحول إلى أشبه ما تكون بالجامعة!
وهكذا، "فتحت المدرسة أبوابها عام 1953م، وكان التعليم الثانوي تطور في تلك المرحلة بالفصول وبعدد الطلاب الذين استقبلتهم ثانوية الشويخ في أول سنة من افتتاحها فوصل إلى 422 طالباً في عام 1953/1954، وزاد هذا العدد في السنتين التاليتين ليصبح 23 فصلاً و541 طالباً عام 1954/ 1955.. وعندما تم الافتتاح ظهرت كأحد أهم المعالم الحضارية والتعليمية في الدولة، حيث بنيت على مساحة بلغت ما يقرب من 2.5 مليون متر مربع وعلى بعد 6 كم غرب مدينة الكويت وعلى شاطئ البحر، وأحاط بها سور له عدة بوابات، وبوابتها الرئيسية من الروائع الحلوة، لأنها أقيمت على طراز معماري قديم، وضمت مسجداً وحدائق وساحات وملاعب رياضية إضافة إلى «استاد» رياضي كبير وفصول ومختبرات عدة ومسرح ومطعم وحمام سباحة ومستشفى وسكن وناد للمعلمين وآخر للكشافة، كذلك ضمت ثمانية مساكن داخلية"(11).
هذا الإنجاز الضخم لم يشغل الشيخ عن الاهتمام بجوانب التعليم الأخرى، فقد أنشأت دائرة المعارف في ذلك الوقت عدداً من المعاهد الخاصة بذوي الاحتياجات، فافتتحت معهد النور للبنين "في العام الدراسي 1955 – 1956 ليؤدي مهمة المعارف في تعميم العلم بين المكفوفين. وقد التحق به آنذاك 36 طالباً، بينما يبلغ المنتسبون إليه الآن (1962) 54 طالباً. ومعهد النور للبنات: وهو يتبع طريقة معهد البنين نفسها. ومعهد الأمل للبنين والبنات: افتتح هذا المعهد في العام الدراسي 1959 – 1960 والتحق به آنذاك 18 طالباً وأربع طالبات من الصم البكم. ومعهد التربية العقلية: افتتح المعهد في العام الدراسي 1960 – 1961، وهو يضم الآن (1962) ثلاثين طالباً و34 طالبة"(12).
ولم يأل الشيخ عبدالله رحمه الله جهداً في حضّ المتعلمين على السفر في بعثات دراسية إلى الخارج، وكان يحرص على زيارتهم والوقوف على أوضاعهم واحتياجاتهم كلما سافر إلى مصر أو لبنان أو فرنسا أو بريطانيا. كما كان مجلس المعارف برئاسته دائم السهر على راحة الطلبة، وتذليل كل ما من شأنه إعاقة مسيرة تحصيلهم العلمي، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال محاضر اجتماعات المجلس الكثيرة؛ ومثال ذلك ما جاء في البند الرابع من محضر لاجتماع عقد برئاسة الشيخ في الرابع من ديسمبر 1955: "بحثت مناقصة إنشاء بيت للكويت في القاهرة على الأرض التي سبق للمعارف شراؤها بالدقي، فتقرر إرساء المناقصة على العطاء الأرخص، كما تقرر إلغاء القرار السابق القاضي بشراء البيت الجاهز الكائن بميدان الجلاء والكتابة إلى المسؤول عن بيت الكويت بذلك"(13).
ولم يقتصر أمر البعثات على دولة بعينها، بل عمد المجلس إلى إلحاق الطلبة بأرقى الجامعات في العالم، بناء على خطة طموحة تؤسس لكوادر وطنية تواصل قيادة نهضة الوطن نحو تحويل الطموح إلى واقع ملموس. وفي سبيل ذلك أنشأت المعارف "ثلاثة مكاتب للبعثات، أولها في القاهرة وقد تأسس سنة 1945 ويسمى بيت الكويت، ويتفرع عنه بيت للطالبات الكويتيات. أما مكتبها الثاني فقد أنشئ في نيويورك سنة 1958، وأنشئ الثالث في لندن سنة 1959. ويبلغ عدد طلاب البعثات الكويتية في القاهرة 247 طالباً وطالبة، وفي الولايات المتحدة الأميركية 84، وفي إنجلترا 172 بينهم 13 طالبة. وهناك طلاب يتلقون العلم في لبنان والعراق وألمانيا يبلغ عددهم 23 طالباً. وبذلك يكون مجموع طلاب البعثات 526 طالباً وطالبة"(14). وكان عدد المبتعثين والمبتعثات يتزايد عاماً بعد عام بشكل كبير، وهو ما عكَس الحرص على بناء قدرات وطنية في أسرع وقت لتكون جاهزة لرفد القطاعات الحكومية، التي ما فتئت تنهض وتتوسع، بالخبرات الوطنية المؤهلة لقيادتها وتنميتها.
وعلى المنوال ذاته، لم ينس الشيخ الفنون وأهميتها في بناء وتهذيب النفوس والأرواح، فاهتم بها وعمل على إنشاء الجمعيات الفنية وتطويرها، ما أدى إلى بروز جمعيات لمختلف الفنون. وفي نطاق المدارس، شجع على تشكيل فرق موسيقية وتمثيلية، وكان يحضر حفلاتها كلما تسنى له ذلك. كما أسهمت دائرة المعارف في إنشاء مكتبة عامة حرص الشيخ على رفدها بأهم الكتب والمجلات، وكان يبتعث مندوباً خاصاً إلى الدول العربية للاطلاع على جديد المكتبات وشراء ونقل نسخ منها إلى الكويت، عدا اشتراك المكتبة بأغلب المجلات والصحف العربية. ثم ما لبث أن افتتح فروعاً لتلك المكتبة في كل أنحاء الكويت.
وتلبية لاحتياجات المجتمع الجديد الناهض، التفت الشيخ إلى ضرورة تأسيس تعليم مهني يسد حاجة هذا المجتمع إلى الكوادر الحرفية اللازمة لمتطلبات التنمية. ولذلك أسس مدرسة للتعليم التجاري في سنة 1953، وأخرى للتعليم الصناعي في سنة 1954. وفي المقابل، أسس في العام 1956 مركزاً لتدريب الفتيات على الخياطة ومهارات التدبير المنزلي وطرق العناية بالأطفال. وكان لمن فاتهم قطار التعليم نصيب من اهتماماته، فأنشأ مراكز خاصة لتعليم ومحو أمية العمال وعناصر الشرطة والجيش وكبار السن، تبعتها مراكز أخرى مماثلة للنساء، وسرعان ما امتدت السلسلة بعد ذلك وتوسعت، فتوسعت معها أعداد الملتحقين والملتحقات بهذه المراكز.
وبصرف النظر عن المجانية التامة في التعليم، كانت المعارف تقدم وجبات غذائية لكل الطلبة، حيث أنشأت "مطبخاً مركزياً يعد أكبر مطبخ من نوعه في العالم، بإعداد الخبز وتحضير اللبن وإعداد الوجبات الغذائية المختلفة بطريقة آلية، وينتج ما يزيد عن خمسين ألف وجبة كل يوم توزع بسيارات مخصصة لهذا الغرض على جميع المدارس في المدينة والقرى بحيث تصلها طازجة"(15).
ومع انتشار مدارس التعليم النظامي، وتجربة إلحاق الأطفال بها، تبينت دائرة المعارف أن الأطفال كانوا يتعرضون إلى ما يشبه الصدمة حال التحاقهم في المدارس، واكتشفت أن أساس المشكلة يرجع إلى البيئة التي يعيشونها قبل فترة الالتحاق، حيث إن أغلب الآباء كانوا من الفئة الأمية العاجزة عن تهيئة الأبناء لمرحلة الدراسة. ولذلك استدعت دائرة المعارف عام 1954 الخبيرين التربويين المصري إسماعيل القباني والعراقي متى عقراوي، اللذين أعدا دراسة عن أوضاع التعليم، وأوصيا بضرورة تأسيس رياض للأطفال، يقضون فيها مدة عامين تتضمن تشذيب سلوكياتهم وعاداتهم وتنمية ألفتهم بينهم، وتعليمهم المبادئ الأولية المؤهلة لدخولهم المدارس.
واسترشاداً بهذه الدراسة "أنشأت دائرة المعارف عام 1954 روضتي أطفال على سبيل التجربة يدخلها الأطفال من الجنسين في سن الرابعة، ثم ينتقلون بعدهما إلى المدرسة الابتدائية. وقد نجحت هاتان المدرستان نجاحاً كبيراً شجع المعارف على فتح عدد من الرياض كل عام استجابة إلى رغبة أولياء الأمور الذين أقبلوا بشدة على إلحاق أطفالهم بها، وقد بلغ عددها عام 1958 – 1959 تسعاً زادت إلى 15 روضة في العام الدراسي 1959 - 1960"(16).
ونتيجة حماسته للقضاء على الجهل والأمية في أقصر وقت، ومسابقة الزمن لإلحاق البلاد بركب التطور والتحضر، لم يكتف الشيخ عبدالله المبارك بإجراءات مجلس المعارف، بل كان يوظف علاقاته الشخصية ومكانته في أوساط الكويتيين في سبيل التغلب على كل ما يعيق التوسع في بناء المدارس ونشرها في مختلف أنحاء البلاد. ويمكن لنا ملاحظة ذلك من خلال إشارة وردت في أحد بنود محاضر اجتماع لمجلس المعارف برئاسته. فقد ورد في محضر نشرته (الكويت اليوم) في العام 1955 ما يلي: "أثير موضوع المباني المدرسية المطلوبة للعام الدراسي 1956 -1957 للمرة الثالثة، وبعد البحث والمذاكرة تعهد سعادة الرئيس بأن يتولى إنهاء هذا الموضوع بنفسه"(17).
إن اهتمامه بالتعليم ونشر المدارس لم يقتصر على الإجراءات الرسمية، والتعامل مع المسألة من خلال إصدار القرارات والتعليمات، بل تعدى ذلك إلى نزوله شخصياً واحتكاكه بالطلبة، وتقديم الهدايا لهم من منطلق التشجيع والحث على مواصلة التعليم. وفي هذا الصدد "تتذكر الناشطة والأديبة فاطمة حسين أيامها الدراسية الأولى في المدرسة القبلية، فتقول ما مفاده أن الشيخ عبدالله المبارك كان حريصاً على حضور المناسبات المدرسية، وكان يضفي عليها الفرح بوجوده وسط الطالبات"، مضيفة أنه "كان يتمتع بشخصية جذابة وروح مرحة، علاوة على تميزه بالكرم الذي كثيراً ما تجلى في تقديمه الهدايا التشجيعية للطالبات المتفوقات كالساعات وغيرها، الأمر الذي كان يشجع الفتيات على عشق الدراسة والبذل"(18).
بعد ذلك، وإثر استقرار التعليم وتواصله في مختلف المراحل، كان من الطبيعي أن يطرح الشيخ موضوع الإعداد لإنشاء جامعة تتلقف الخريجين في مرحلة الدراسة الثانوية، وتمنع انقطاعهم أو تسربهم خارج المجال التعليمي، وهو ما يوفر على الطالب أيضاً عناء الاغتراب للدراسة في الخارج، وعلى الدولة مصاريف الابتعاث في الوقت عينه. ولأهمية هذا الموضوع ودقته استغرق مجلس المعارف جلسات عديدة في بحثه والإعداد له. ويتضح ذلك من خلال الاطلاع على محاضر الاجتماعات. ففي البند الثالث من محضر اجتماع المعارف برئاسة الشيخ في 7 مارس 1960 وتحت عنوان (مشروع جامعة الكويت) ورد أنه "وزع في الجلسة الماضية بتاريخ 29/2/1960 التقرير الذي وضعه خبراء الجامعة على الأعضاء لدراسته وإبداء الرأي فيه. وحيث إن مثل هذا الموضوع مهم وحيوي بالنسبة للكويت فقد أجل الأعضاء البت في الموضوع للأسبوع المقبل"(19)، و"في اجتمـاع مجلــس المعــارف برئاســة الشــيخ بتاريخ 14 مارس 1960 ناقــش الأعضــاء تقريــراً عن إنشاء جامعــة الكويــت، وتــم الاتفــاق عــلى إعطــاء مزيــد مــن الوقــت لدراســة التقريــر لمــا لهــذا الموضــوع مــن أهميــة كــبرى في مستقبل البلاد"(20).
كل ذلك كان يرافقه عمل فعلي على أرض الواقع، تمهيداً لاعتماد المشروع في أبهى حلله. ذلك أن مجلس المعارف استقدم في العام 1960 لجنة خبراء "تألفت من مدير جامعة أسيوط بجمهورية مصر العربية أ.د.سليمان حزين، والأستاذ بالجامعة الأمريكية ببيروت أ.د.قسطنطين زريق، والأستاذ بجامعة كمبردج أ.د.إيغور جينجز.. وفي عام 1961 أنشئ مجلس مؤقت للجامعة بغية العمل على افتتاح الدراسة في شهر سبتمبر من عام 1964 بكليتين إحداهما للآداب، والأخرى للعلوم.. وصدر المرسوم الأميري في أبريل عام 1966 بالقانون رقم 29 من عام 1966 لتنظيم التعليم العالي. وتم افتتاح جامعة الكويت في أكتوبر عام 1966م، وذلك بتأسيس كلية العلوم والآداب والتربية وكلية البنات الجامعية، وكان قوامها 418 طالباً وطالبة و31 عضو هيئة تدريس. وفي السابع والعشرين من نوفمبر من عام 1966، تفضل حضرة صاحب السمو أمير البلاد الراحل المغفور له الشيخ صباح السالم الصباح بالتدشين الرسمي لجامعة الكويت وسط حشد غفير من المجتمع الكويتي"(21).
وقتذاك، وكنتيجة حتمية لما عكسه الواقع من نهضة تعليمية سريعة وغير مسبوقة، تخطّت أخبار إنجازات الشيخ عبدالله المبارك الساحة المحلية إلى الساحة العربية، فغدا رمزاً ومضرب مثل. و"في عام 1956، نشرت جريدة الجمهورية المصرية تحقيقاً عن التعليم في الكويت ودور الشيخ عبدالله مبارك في تطويره، فوصفت الشيخ بأنه الرجل الذي «خلّص الكويت من ظلام الجهل»، وجاء فيه أن الشيخ يؤمن بأهمية التعليم والتربية في تكوين الأمم والشعوب، وبأن سلامة الكويت من أي خطر خارجي أو مرض داخلي تتطلب أولاً وقبل كل شيء التخلص من الجهل والظلام الذي يفتك بالعقول"(22).
وبصفته المسؤول الأول عن شؤون القبائل ومتابعة قضاياهم وهمومهم وأعطياتهم والفصل في نزاعاتهم ممن استوطنوا الكويت أو ممن قطنوا حولها.. فقد أولى تعليم القبائل أولوية في عمله شجعهم على الدخول في عصر التنوير والحاق أبنائهم بالتعليم النظامي.. وإشاعة العلم بين القبائل، خاصة وأنه قد نجح نجاحا باهرا في كسب ود القبائل ونيل احترامهم لما في شخصيته من هيبة وحزم وقوة وكرم.
الكشافة
كان الشيخ عبدالله المبارك يميل إلى الحركة الكشفية لمعرفته بما تقوم عليه من مبادئ تتمثل في تعزيز السلام والصداقة والعمل التطوعي، إضافة إلى تربيتها القدرات البدنية والعقلية في الآن ذاته. ومن هذا المنطلق شجع فرق الكشافة والأشبال، وكان دائم الزيارة للمعسكر الكشفي السنوي لكشافة الكويت، و"حرص عــلى مشــاركة فرقهــا في الاســتعراضات والمناســبات العامــة. ففــي فبرايــر عــام 1953 عــلى ســبيل المثــال نظــم الشــيخ اســتعراضاً كبـيـراً أمــام دائــرة الأمــن العــام ضــم وحــدات مــن الحــرس الأميــري والجيــش وفــرق الكشــافة والأشــبال"(23).
ونتيجة لهذا الاهتمام، تأسست جمعية الكشافة الأهلية في 22/10/1955، وجرى إتباعها لإدارة المعارف، التي أصدرت قانوناً لحماية الحركة الكشفية. وفي العام ذاته شاركت الكويت في المخيم الكشفي العالمي الثامن في كندا. وفي العام ذاته أقيم اجتماع اللجنة الكشفية العربية في دورتها الثالثة في الكويت.
الصحف والمجلات
في خضم سياسة الانفتاح التي انتهجها مجلس المعارف، وفي ظل تزايد البعثات الدراسية، واتساع شريحة المثقفين الكويتيين، وتكريس تواصلهم مع معظم الدول العربية، إضافة إلى تشعّب اهتمامات المجتمع ومجالات العمل فيه، بعد أن كانت قاصرة على البحر وشؤونه، ازدهرت على يد الشيخ عبدالله المبارك صناعة الصحف والمجلات، فتجاوز عددها عدد أصابع اليدين الاثنتين خلال نحو عقد من الزمن فقط، وفي مجتمع لم يكن عدد مواطنيه والوافدين إليه يتجاوز ربع المليون نسمة.
فبعد تزايد عدد الطلبة الكويتيين الدارسين في مصر، وبعد التشاور مع مجلس المعارف، صدرت مجلة (البعثة) الشهرية عن بيت الكويت في القاهرة في الشهر الأخير من سنة 1946. وقد أدارها وأشرف عليها وحررها طلاب الكويت الدارسين في الجامعات والمعاهد المصرية. وتمحورت موضوعاتها حول الشأن الداخلي الكويتي، وكان لها اهتمام خاص بالأدب والرياضة وشؤون المرأة.
وقد أثبتت "هذه المجلة وظيفتها في تأكيد الانتماء وتوثيقه بالوطن والعروبة بتراثها وحضارتها دون أن تغفل الاتجاهات الحديثة. وإذا كانت المجلة توجيهية تتلقى خطوطها العامة من مجلس المعارف إلا أن هؤلاء الشباب وجدوا فيها وعاء يحوي ما يجول في أذهانهم ومشاعرهم ويصلهم بالبيئة الثقافية المصرية، واتسمت معالجة المجلة للمشكلات الاجتماعية بالهدوء نتيجة للرقابة المزدوجة من إدارة بيت الكويت ومجلس المعارف خاصة في سنواتها الخمس الأولى"(24).
وفي يوليو من العام 1948 صدرت مجلة (كاظمة) كمجلة شهرية، وحملت صفحتها الأولى تعريفاً يقول إنها مجلة "تبحث في الآداب والعلوم والفنون والاجتماعيات والقصص والشعر والكتب"، وكانت أول مجلة تُطبع في مطبعة دائرة المعارف الكويت. وفي يونيو من العام 1950 صدرت مجلة (البعث) كمجلة ثقافية شهرية أصدرها أحمد العدواني وحمد الرجيب، ومجلة (الكويت) التي أصدرها يعقوب الرشيد إحياء لمجلة الكويت التي أصدرها والده في العام 1928، وكانت المجلة الجديدة مجلة علمية اجتماعية.
وفي أواخر عام 1950 أصدر عبدالله الحاتم مجلة نصف شهرية سماها (الفكاهة) و"كانت دائرة المعارف تعاونها ببدل اشتراك قدره 630 روبية، وهذا مبلغ لا يكفي مع قلة المبيع منها. وساعدت الحكومة على صدورها في مدتها الثانية حيث صدر العدد العاشر منها في يوليو سنة 1954، وبلغت قيمة المعونة ألفين من الروبيات في الشهر الواحد"(25).
أما في العام 1952 فصدرت مجلة (الرائد) عن نادي المعلمين، وتمحورت مادتها حول التربية والتعليم والآداب والفنون. وجاء في عددها الأول: "مبدأ هذه المجلة كويتي صرف وعقيدتها وطنية خالصة، فهي ليست ملكاً لجماعة دون أخرى وإنما هي للكويتيين كافة، لا فضل عندها لأحد على أحد إلا بالإخلاص للوطن والتضحية في سبيله"(26). وفي يناير من العام نفسه صدرت مجلة (اليقظة)، وهي مجلة طلابية أصدرتها المدرسة الثانوية في الشويخ. وفي الشهر ذاته أصدرت دائرة الصحة العامة مجلة سمتها (الصحة)، وكانت مجلة شهرية تعنى بالشؤون الصحية. ولا ننسى مجلة (الإيمان) الشهرية التي صدرت عن (النادي الثقافي القومي) كما ذكرنا آنفاً.
ومن المجلات والصحف التي صدرت في تلك المرحلة مجلة (الإرشاد) وهي مجلة شهرية صدرت عن جمعية الإرشاد الإسلامية في العام 1953، وترأس تحريرها عبدالعزيز العلي المطوع، وكانت اللسان الناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين. ومجلة (الرائد الأسبوعي) عن نادي المعلمين سنة 1954، والجريدة الرسمية للدولة (الكويت اليوم) في العام 1954، وهي التي تولت نشر القوانين والمراسيم الرسمية، وجريدة (أخبار الأسبوع) وهي جريدة أسبوعية صدر العدد الأول منها في الأول من نوفمبر 1955، وكانت تعنى بالشؤون السياسية والاجتماعية. ومجلة (الفجر) الأسبوعية عن نادي الخريجين في العام 1955.
وكنتيجة حتمية لتكاثر المجلات والصحف أصدر مجلس المعارف سنة 1956 قانون المطبوعات والنشر في الكويت، وكان أول تشريع خليجي من نوعه.
وتتابع صدور الصحف والمجلات، فصدرت مجلة (الرابطة) في سنة 1957، وكانت مجلة دورية غير منتظمة تعنى بشؤون الطلبة الكويتيين الذين يدرسون في بريطانيا وأيرلندا. كما صدرت في ذلك العام مجلة حملت اسم (الشعب)، وهي مجلة اجتماعية سياسية ثقافية أسبوعية ترأس تحريرها خالد خلف، وكان يعقوب الرشيد سكرتيراً لتحريرها. أما في فبراير من العام 1958 فصدرت مجلة (صوت العامل) عن المركز الثقافي العمالي بدائرة الشؤون الاجتماعية في الكويت، وكانت مجلة شهرية تعنى بشؤون العمل والعمال. كما شهد ذلك العام صدور مجلة (العربي) التي وقفت الحكومة وراء إصدارها في أواخر العام 1958، ولا تزال أعدادها تتوالى في الصدور شهرياً.
حماة الوطن
لطالما حلم الشيخ المبارك بتكوين قوة منيعة قادرة على الذود عن حياض الوطن، فمنذ عمله في يفاعته في قوة الحدود عبر مجاهل الصحراء الكويتية، وتسلّمه بعد ذلك منصب نائب رئيس دائرة الأمن العام، أيقن أنه لا بد من تشكيل قوة ضاربة تحمي البلاد من هجمات المهربين التي خبرها وتصدّى لها مراراً، ناهيك عن خطر الأطماع التي ما فتئت تطل برأسها عبر الحدود. وما إن واتته الفرصة في رئاسة دائرة الأمن العام حتى شرع، وبكل ما أوتي من عزم، في تحقيق حلمه، الذي سرعان ما تحول إلى حقيقة على أرض الواقع. وعن ذلك قال العقيد طيار متقاعد سلطان عبدالرحمن الكندري: "تأسس الجيش الكويتي أواخر الأربعينيات، وكان المؤسس المرحوم الشيخ عبدالله المبارك الصباح.. ذلك الرجل الذي اهتم ورعى الجيش وقدم وسهل له المهمات، وأحضر للجيش كل جديد من المعدات.. واهتمت قيادة الجيش بإرسال الأفراد إلى الخارج للدراسة، خاصة الحاصلين على مؤهلات علمية، بعضهم إلى بغداد ومصر"(27).
وعلى الرغم من انشغاله بالأمور الأمنية والعسكرية في دائرة الأمن العام، وقيادته للجيش والقوات المسلحة، إلا أنه لم يتخل عن الشق التنويري والتثقيفي. لقد آمن أن التثقيف العسكري لا يقل أهمية عن التدريب العسكري، فأوعز بإصدار مجلة (حماة الوطن) كأول مجلة متخصصة في الشؤون العسكرية المختلفة.
وهذا ما تم فعلياً، "ففي أكتوبر عام 1960 أصدرت إدارة التوجيه المعنوي في الجيش والقوات المسلحة، قبل أن تصبح وزارة الدفاع، أول مجلة متخصصة في الشؤون العسكرية المختلفة، وكان الإقبال عليها كبيراً من القراء في ذلك الوقت نظراً لطبيعة صدورها واختلاف موادها التي كانت تشمل الحروب العسكرية في التاريخ وطبيعة الأسلحة ودورها لدى الجيوش. وفي العدد الأول من المجلة التي جاءت تحت اسم (حماة الوطن) تصدّرت كلمة الشيخ عبدالله المبارك القائد العام للجيش والقوات المسلحة آنذاك، قال فيها: القوات المسلحة في بلدان العالم أجمع نظام عسكري رائده الأول والأخير حماية الوطن. والكويت، شأنها في كل قطر أبيّ مسالم من الشعب وإلى الشعب، تبذل كل ما في وسعها في سبيل النهوض بالعبء الملقى على عاتقها وتأدية واجبها المقدس نحو الوطن.. ولما كانت مصلحة هذا البلد الأمين تقتضي مواصلة الجهود في رفع المستوى الثقافي والعسكري وإطلاع الشعب الكريم على مدى تقدم جيشه الباسل، فقد قررنا إصدار المجلة العسكرية لتعنى بشؤون الجيش وتكون ميداناً للأقلام الحرة القوية، وأفقاً للقرائح الصافية السليمة وملتقى للآراء النيرة، مستهدفة جميعها خدمة كويتنا الحبيبة"(28).
و"تضمنت أعداد المجلة في سنتها الأولى وجبة دسمة ومتنوعة من الدراسات العسكرية والمقالات الثقافية والاجتماعية والدينية الهادفة. فلم تقتصر على المعلومات العسكرية، وإنما نشرت في كل عدد قصيدة وقصة، ومقالة عن إحدى المعارك العسكرية في تاريخ الكويت أو العرب عموماً، وآيات وأحاديث نبوية.. وكتب لـ (حماة الوطن) بعض من أبرز الكتاب والمثقفين في الكويت والبلاد العربية مثل الأستاذ عبدالرزاق البصير، ود.سهيل إدريس، ود.قدري حافظ طوقان، ود.نقولا زيادة، والأستاذ صالح جودت"(29).
الطيران
كان للشيخ عبدالله دور رائد في إرساء قواعد كيان الطيران المدني والعسكري في الكويت. ففي العام 1953 أنشأ وافتتح (نادي الكويت للطيران ومدرسة الطيران)، وأصدر أوامره بضرورة تحديث وتطوير مطار الكويت (مطار النقرة)، الذي لم يكن مؤهلاً وقتها إلا لاستقبال الطائرات المروحية، وعدد محدود جداً من طائرات الركاب، ونهاراً حصراً. وبالتزامن مع ذلك بوشر بتدريب عدد من الكويتيين على الطيران في النادي، وإرسالهم بعد اجتياز الدورات إلى بريطانيا لاستكمال التدريبات. وبذلك تمكّن من تشكيل نواة (الخطوط الجوية الكويتية)، وسلاح الطيران الكويتي فيما بعد. واعترافاً من بريطانيا بنجاحه في إدارة نادي طيران الكويت منحته وسام (أجنحة الشرف) في حفل كبير أقيم في الكويت.
ففي السادس من مارس لعام 1954 احتفلــت (الخطــوط الجويــة الكويتيــة الوطنيــة المحــدودة) بوصــول أولى طائراتهــا التــي أطلــقت عليهــا اســم (كاظمــة). وفي الثامن عشر من مارس بدأت الشركــة تسـيـير رحــلات منتظمــة إلى البــصرة والبحريــن وبـيـروت. وفي العشرين من ديسمبر من سنة 1954 رعى الشيخ عبدالله حفلاً كبيراً احتفاءً بتسليم شهادات التخرج من مدرسة الطيران لعدد ثمانية طيارين كويتيين. وقد وثّقت جريدة (الكويت اليوم) هذا الحدث بتفاصيله: "أقيم عصر يوم الاثنين الموافق 20 الجاري احتفال كبير برعاية حضرة صاحب السعادة الشيخ عبدالله المبارك الصباح بصفته رئيساً للطيران. وقد وزع سعادته الشهادات الكويتية والبريطانية على الطيارين الكويتيين المدرجة أسماؤهم أدناه: 1- مرزوق العجيل 2- داوود مرزوق بدر 3- فهد العتيقي 4- غازي جميل قدومي 5- عبدالله السمحان 6- بدر حسين الصايغ 7- عبدالله الصالح العلي 8- حنا جبره شحيبر. وسيقضي الطيارون فترة أخرى في الكويت لمواصلة التمرين ولتلقي الدروس النظرية والعملية ثم يسافرون إلى إنجلترا في بداية مارس سنة 1955م للالتحاق بمعهد الطيران ساوثمبتن الذي هو أكبر معاهد التدريب الجوي في إنجلترا، وسيتلقون فيه دراسات يحصلون بعدها على شهادة تؤهلهم لقيادة الطائرات التجارية. وينتمي إلى مدرسة الطيران الآن حوالي مئة وعشرين عضواً ينتظرون دورهم للتدريب، منهم تسعون عضواً كويتياً، والباقون أجانب من مختلف الجنسيات. وللمدرسة مدير هو الأستاذ مصطفى صادق الذي يقوم بدور مدرب أيضاً، ومعه ثلاثة مدربين: الأول بريطاني يشغل وظيفة كبير المدربين والآخران مصريان. ونحن نهنئ نسور الكويت بنجاحهم متمنين لهم التوفيق لما فيه خير الكويت"(30).
وأمام ذلك برزت الحاجة إلى هيئة تتابع وتشرف على أعـمـال الطــيران المــدني، فأعلن الشــيخ عبداللــه المبــارك -بصفتــه القائــم بأعـمـال الحاكــم- فــي الأول مــن شــهر أكتوبــر عــام 1956، إنشــاء دائــرة الطــيران المــدني وتبعيتهــا لدائــرة الأمــن العــام تحــت إشرافــه. ولم يكتف بذلك، بل عمد إلى إنشاء مطار جديد، لضعف إمكانيات وقدرات القديم، واستطاع بعد التعامل مع اعتراضات ومماطلات السلطات البريطانية، أن يحقق مراده.
ووثّق تقرير عن الطيران المدني نشرته جريدة (الكويت اليوم) في أواخر العام 1958، أهداف ومنجزات وتطلعات الإدارة، نقتطف منه ما يلي: "أصدر حضرة صاحب السمو رئيس دوائر الأمن العام والطيران المدني قانون ملاحة وإنشاء سجل طيران كويتي، وبذا أصبحت علامات التسجيل وحروف النداء للطائرات المسجلة في الكويت خاصة بها.. أنشئ ممر جديد للطائرات بالإسفلت طوله ميل يصلح لاستقبال جميع أنواع الطائرات. أنشئ رصيف استقبال للطائرات خراساني هو الثاني مساحة من نوعه في الشرق الأوسط بعد مطار بيروت.. أنشئت محطة لاسلكي بعيدة المدى.. زودت محطة المطافئ بسيارتين جديدتين من أحدث سيارات الإطفاء الخاصة بالطائرات. أنشئ مكتب للبريد والبرق والتليفون والصحة البلدية بالمطار. أنشئ مبنى خاص باستقبال كبار الزوار". وعن مشروعات المستقبل يذكر التقرير: "مشروع إنارة الممرات ليلاً بالكهرباء ويتم في القريب العاجل. إنشاء قاعة مستقلة لاستقبال الركاب العابرين ترانزيت. لما كان قد تقرر إنشاء مطار جديد في الكويت من الدرجة الأولى فإن الدائرة تعد من الآن ما يلزم من تسهيلات ملاحية وفنية وتدريب وإعداد موظفيها استعداداً لذلك حتى يكون الانتقال تدريجياً وطبيعياً"(31).
المواسم الثقافية
الانفتاح الكويتي على الخارج، والتلاقح الفكري الذي أنتجته الهجرات المتلاحقة إلى البلاد، وتوسع القواعد التنويرية في الداخل، دفع بالحراك الثقافي إلى التنامي بخطوات متسارعة. ولما رأى مجلس المعارف أن جزءاً من طموحاته بدأ يزهر على أرض الواقع، كثّف السعي لتحقيق ما يمكن من الطموحات المتبقية على طريق النهوض بالبلاد قدماً. وفي الشأن الثقافي، بادر المجلس إلى تنظيم مواسم ثقافية سنوية يشارك فيها مثقفو الكويت، ويدعى إليها أدباء ومفكرون من الدول العربية. وقد لاقت هذه المواسم إقبالاً كبيراً، وتفاعلاً لافتاً شجّعا على التطوير والتنويع والتوسع.
انطلقت المواسم الثقافية في العام 1955، واتخذت من ثانوية الشويخ مقراً لها نظراً لحداثتها واحتوائها على كل التجهيزات المطلوبة. و"كانت معارف الكويت آنذاك تجمع محاضرات كل موسم في كتاب مستقل، وتقوم على طباعته مطبعة حكومة الكويت، ويوزع هذا الكتاب داخل الكويت وخارجها على المعنيين بذلك. كما كانت تلقى في الموسم الواحد محاضرات عدة يصل بعضها إلى أربع عشرة محاضرة، كان ذلك في الموسم الرابع عام 1958، وتتنوع المحاضرات في الأدب والفلسفة والتربية وعلم النفس والاقتصاد والاجتماع. وكانت تلقى هذه المحاضرات جميعها في قاعة ثانوية الشويخ لاتساعها ووجود شرفة للسيدات فيها. وفي كل موسم يزداد الحضور، كما كانت تزداد الأسئلة التي توجّه إلى المحاضرين.. ومن الأدباء والأساتذة الذين كانوا يحيون هذه المواسم -وهم في تنوع مستمر في كل موسم- ولاسيما في الموسم الرابع، سبعة من رجال الفكر المشهورين في العالم العربي وهم: ميخائيل نعيمة، د.طلعت الشيباني، د.عبدالعزيز القوصي، أمينة السعيد، زكي طليمات، برهان الدجاني ود.جميل صليبا"(32).
وتكشف مقدمة كتاب الموسم الرابع سنة 1958 عن الصدى الواسع الذي كانت تخلفه تلك المواسم في نفوس الكويتيين، وعن إصرار مجلس المعارف على نشر الثقافة بشتى الوسائل: "أصبح الموسم الثقافي الذي تقيمه المعارف منذ أربع سنوات ضرورة تفرضها طبيعة التطور، وتوجبها تنمية الرأي العام، وتطلعه إلى آفاق رحبة من نتاج الفكر، تعالج الأحداث، وتكشف عما يدور في العالم العربي، من تقدم في شؤون التربية والاجتماع، ومناهج الأدب وضروب الحضارة وأساليب السياسة والاقتصاد. وقد كان النجاح الموفق الذي أصابته هذه المواسم، وتجلّت مظاهره في الإقبال أولاً وفي الحرص على التعقيب بالأسئلة ثانياً دافعاً للمعارف على موالاة هذه المواسم، وعلى التنويع في اختيار المحاضرين المختصين من سائر الأقطار العربية، ليجد المستمعون فيها ألواناً من البحوث، وفي الغالب الكثير من موضوعات الساعة التي تتطلع إلى شرحها النفوس، وتتشوق إليها القلوب. نعم، إن التطور السريع في العالم العربي عامة، وفي الكويت خاصة يوجب نشر الثقافة بين طبقات الشعب بشتى الوسائل"(33).
أما الحدث الأبرز الذي عمد الشيخ من خلاله إلى إبراز وترسيخ مكانة الكويت الثقافية في الوسط العربي، فهو إصراره في العام 1958 على استضافة الكويت لمؤتمر الأدباء العرب الرابع. وقد تم له ذلك، حيث عقد المؤتمر في الكويت في العشرين من ديسمبر من ذلك العام، وتواصلت فعالياته حتى الثامن والعشرين منه، وكانت المرة الأولى التي يعقد فيها مثل هذا المؤتمر في الكويت. وبصفته رئيساً للمعارف ونائباً للحاكم فقد رعى المؤتمر الذي افتتحه أمير البلاد الشيخ عبدالله السالم الصباح، وكان له قبل افتتاحه دور محوري في الإعداد لبرنامجه واصطفاء أسماء المشاركين فيه وترتيب إقامتهم. ولم يكتف بالحفاوة الرسمية التي لقيها المشاركون، بل استضافهم وأولم على شرفهم في قصره (قصر مشرف).
وقد تعرّف الكويتيون شخصياً في تلك السنة على الكثير من الشخصيات الأدبية والفكرية ذات الصيت الواسع، التي طالما سمعوا بأسمائها وقرؤوا لها. فمن الشخصيات البارزة التي حضرت وشاركت في ذلك المؤتمر نذكر: محمد مهدي الجواهري، وأحمد الشرباصي، وسعيد عقل، وإحسان عبد القدوس، وعبد القادر القط، ونازك الملائكة، وعائشة عبد الرحمن، وكامل الشناوي، وعبدالحليم عبدالله، وفؤاد الشايب، ومحمد يوسف نجم، وعبدالمهدي مجذوب، وسهيل إدريس، وإبراهيم العريض، وعيسى الناعوري، والقاضي الشماحي، وعبدالهادي التازي، ومفتاح الشريف، ومهدي المخزومي، وعثمان السعدي، وعبدالله أحمد الشباط، وعبدالرحمن معاودة، وغيرهم الكثير من الشخصيات التي وصل عددها إلى نحو مئتي شخصية.
وقد رصدت وقائع هذا المؤتمر في حينه العديد من المطبوعات العربية، ومنها مجلة الآداب اللبنانية التي نشرت تقريراً عنه جاء فيه: "عقد مؤتمر الأدباء العرب دورته الرابعة في مدينة الكويت بين 20 و28 ديسمبر 1958 بدعوة من حكومة الكويت التي أبدت من حسن الضيافة والرعاية ما ملأ نفوس أعضاء الوفود غبطة وألهج ألسنتهم بالثناء. وقد اشترك في المؤتمر تسع عشرة دولة عربية! وكانت وفود هذه الدول أكبر الوفود التي حضرت في جميع الدورات. وكان في عداد الوفود ممثلون عن دور النشر وممثلون عن الصحافة. وكانت أعمال المؤتمر تتناول مبحثاً نظرياً هو (البطولة في الأدب العربي)، وبحثاً عملياً هو (قضايا الكتاب العربي). وقد تألفت لبحث الموضوع الأخير لجان من مختلف البلدان انقسمت إلى خمس: لجنة النشر والتوريع، ولجنة الترجمة، ولجنة التراث، ولجنة المجلة، ولجنة حقوق المؤلفين. وكانت هذه اللجان تجتمع صباح كل يوم لوضع توصياتها ومقرراتها، بينما كانت المحاضرات تلقى ظهر كل يوم ويعلق عليها المعلقون ويناقشها المناقشون"(34).
وأوردت المجلة تقرير توصيات المؤتمر، الذي ثمّن في ختامه الرعاية الكويتية التي أفضت إلى نجاحه: "يرى المؤتمر لزاماً عليه، وقد وصل إلى هذا النجاح الكبير في هذه الدورة، أن يتقدم بوافر الشكر والتقدير للكويت العزيزة حكومة وشعباً على ما أولت المؤتمر والمؤتمرين من عناية ورعاية، ويخص بالذكر سمو حاكم الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح، وسمو نائبه الشيخ عبدالله المبارك الصباح، وسمو رئيس المعارف الشيخ عبدالله الجابر الصباح، ويوجه المؤتمر تقديره الخاص للأستاذ عبد العزيز حسين مدير المعارف الكويتية والسكرتير العام للمؤتمر"(35).
سجل.. ومتحف
أدرك الشيخ عبدالله المبارك في تلك الفترة ضرورة توثيق كل ما يتعلق بمظاهر الحياة في المجتمع الكويتي، سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها، فأصدر في العام 1959 نداء لكل المواطنين والمثقفين والتجار لتقديم كل ما لديهم من مذكرات ووثائق تاريخية أو صور عنها، ليصار إلى جمعها وحفظها في مكان واحد يشكل سجلاً عاماً للكويت، يرجع إليه الباحثون والمؤرخون لرصد صورة موثقة للكويت بألوانها المختلفة.
ونشرت جريدة (الكويت اليوم) ذلك النداء على شكل بيان، فيما يلي نصه: "لقد اعتزمت إدارة المعارف أن تعد سجلاً تاريخياً ينتظم كل ما يمكن الحصول عليه من الوثائق الخاصة بتاريخ الكويت في مختلف أطواره لتكون مادة تعين المؤرخ والباحث والمطلع على كل ما يهمه من تاريخ بلدنا الكويت بصفة خاصة والخليج العربي بصورة عامة. ولما كانت الرسائل الخاصة والوثائق والعقود وأوراق البيع والشراء ومستندات الغوص والسفر وأوراق استملاك البيوت، كل هذه وأشباهها من المواد المؤلفة للتاريخ بشكل عام يوجد الكثير منها لدى الأسر والأفراد، فإننا نرجو من جميع الكويتيين الذين يهمهم ألا يضيع شيء من تاريخ وطنهم أن يوافوا إدارة المعارف بكل ما يقع تحت أيديهم من أوراق يزيد عمرها على الخمسين عاماً أياً كان موضوعها للاستفادة منها في أغراض البحث العلمي. أما الأوراق ذات الأهمية الخاصة لدى أصحابها ولا يرون بأساً من الاطلاع عليها، فإن المعارف على استعداد لأخذ صور عنها وإعادة الأصول إلى أصحابها. ونحن على ثقة من أن أبناء الشعب الكويتي الكريم سيسهمون معنا في تحقيق هذا المشروع العلمي النبيل، ولن يبخلوا علينا بتقديم ما لديهم من أوراق ومستندات خدمة للبحث العلمي وحفظاً للتراث الوطني. التوقيع: عبدالله المبارك الصباح - رئيس المعارف"(36).
وعلى الصعيد ذاته أدرك الشيخ ضرورة الحفاظ على آثار وتراث الكويت لتكون شاهداً على ماضي هذا البلد، ونافذة للأجيال اللاحقة للاطلاع على تراث بلدهم وطبيعة حياة أجدادهم. وبعد تدارس الأمر، تبنت دائرة المعارف تأسيس متحف الكويت الوطني في العام 1957. ويرصد الباحث محمد الفارس حيثيات ذلك في مقال له نشرته (جريدة الخليج) جاء فيه: "اتجهت معظم دول الخليج إلى إنشاء متاحف للتراث والآثار وغيرها خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ما عدا الكويت التي أنشأت متحفها الوطني قبل الاستقلال، ففي عام 1957 تبنت دائرة المعارف آنذاك مسألة تأسيس متحف يضم آثار وتراث الكويت. وتم افتتاح أول متحف وطني، في 31/12/1957. ضم المتحف في بادئ الأمر عدداً قليلاً من الآثار الشعبية التي جمعت عن طريق الإهداء أو الشراء من الكويتيين، وعلى إثر نجاح عمليات الاستكشاف الأثري التي بدأتها البعثة الدنماركية في جزيرة فيلكا عام 1958، أضيفت إلى مجموعة التراث الشعبي بالمتحف، مجموعة من الآثار القديمة المكتشفة، فأصبح لدى المتحف رصيد غني ومهم من المقتنيات. وانتقلت مسؤولية إدارة الآثار والمتاحف من وزارة المعارف (وزارة التربية فيما بعد)، إلى وزارة الإعلام والثقافة عام 1966"(37).
وحول قانون الآثار نشرت جريدة (الكويت اليوم) وقائع جلسة لمجلس المعارف برئاسة الشيخ عبدالله المبارك، نثبت فيما يلي الجزئية المتعلقة بالقانون: "وزع على الأعضاء في الجلسة الماضية بتاريخ 29/2/1960 قانون الآثار. وبما أن الحفريات في الكويت تبشر بالخير، والمعارف عازمة على إنشاء متحف الكويت الوطني، الذي يرجى أن يضاهي أرقى المتاحف الحديثة، وجاء القانون ليكمل هذا العمل الكبير، فأعطى المعارف السلطة الكافة للمحافظة وصيانة الآثار ومراقبة الاتجار بها وكيفية التنقيب عنها. وبعد البحث وافق الأعضاء بالقرار م م 6/2 على القانون وعلى رفعه للمجلس الأعلى لإقراره وإصداره في مرسوم من صاحب السمو الأمير المعظم"(38).
وفي البند العاشر من محضر الاجتماع ذاته ورد: "ثم تليت التوصية المرفوعة من لجنة الإنشاءات المكونة بمقتضى القرار م م 3/1 بشأن القيام بمنافسة لعمل التصميمات الأولية لمتحف الكويت الوطني بين كبار مهندسي المتاحف المعروفين، على أن تسلم نتيجة المنافسة عند إقرارها من اللجنة المختصة إلى لجنة الأشغال العامة للتنفيذ بالقرار رقم م م 13/2"(39).
هذا وعيّن الخبير الكويتي بالآثار والمتاحف طارق السيد رجب أول مدير لمتحف الكويت الوطني، وذلك بعد اختتامه بعثة دراسية إلى بريطانيا تبنّاها مجلس المعارف. و"بعد عودته إلى الكويت والتحاقه بالموسمين الأخيرين في جزيرة فيلكا تم تعيينه أول مدير لمتحف الكويت الوطني، الذي اتخذ من ديوان الشيخ خزعل (لاحقاً بيت الشيخ عبدالله السالم) مقراً له".(40)
السينما
اتسمت السينما بحضور خجول في مجتمع ما قبل النفط في الكويت. فقد كان الشغل الشاغل للمواطنين وقتها هو الركض المرير للحاق بلقمة العيش. ولم يكن للعامة أي صلة أو تواصل مع بدايات ظهور السينما في الكويت، ذلك أن أول عهد للكويت بالسينما كان في العام 1936، وفي قصر الحاكم تحديداً، إذ إن "أول سينما دخلت الكويت كانت في سنة 1936، أحضرها السيد عزت جعفر معه للشيخ أحمد الجابر، ووضعت في قصر دسمان"(41).
أما الظهور الثاني للسينما فكان في العام 1939 على يد الرحالة والقبطان الأسترالي (ألن فلييرز)، الذي صوّر وأخرج فيلماً تسجيلياً سماه (أبناء السندباد) وثّق فيه رحلة عن الغوص وصيد اللؤلؤ انطلقت من ميناء عدن ومرت بالكويت وسواحل الجزيرة العربية وأفريقيا وصولاً إلى زنجبار ثم العودة إلى الكويت، ولم يتسن للكويتيين مشاهدته وقتذاك.. واختفت السينما بعد ذلك حتى سنة 1946، حيث عمدت شركة نفط الكويت إلى تصوي