طباعة
sada-elarab.com/126033
كثيرون تناولوا أحداث العنف التي تكابدها فرنسا حاليًا بتحليل تنوع ما بين مقارنة مظاهرات أصحاب السترات الصفراء، وأحداث عام 2011 التي شهدتها بعض الدول العربية، وربطوا حتى اسم الربيع العربي وترجموه للفرنسية، متغاضين دون قصد عن حال فرنسا وإرثها وتاريخها الدموي.
فهناك من تحدثوا عن مدى الحريات التي يتمتع بها الشعب الفرنسي وقارنوا تلك الحريات بما يطالب به أصحاب السترات الصفراء، وقالوا إن فرض الأمر الواقع وتغييره عادة ما يأتي من خلال المؤسسات الدستورية والتشريعية في تلك الدول المسماة بالديمقراطية، ولكن ما فعله الرئيس الفرنسي ماكرون يُعد من سلطاته رئيسًا للدولة الجمهورية، وكان يمكن للشعب مناهضته عبر المؤسسات المنتخبة والوصول إلى ما يريده من خلال نواب الشعب، لكن المظاهرات الكاسحة وما ترافق معها من أحداث عنف أشعلت المقارنة بين الدول المتخلفة، وتلك التي ترفل بالثقافة والفنون والآداب ولديها مقومات الحلم لأي إنسان في العالم.
نعم جميعنا نظرنا إلى المواطن الفرنسي من منظور أنه الإنسان ذو الحس المرهف والمثقف الذي يصنع الجمال والرومانسية بلمسات نسعى إلى أن نقتبس من عبقها القليل في رحلات لأوروبا، ولكن صدمة أصابتنا من أفعال الشعب الفرنسي والمتظاهرين في أشهر شوارع باريس، وسرقة المتاجر والغوغائية التي ظهر بها هذا الشعب الحالم الناعم ذو الحس المرهف، أظهرت وجهًا آخر لم يكن يتخيله أحد منا.
لكنه الواقع التاريخي للإنسان الفرنسي الذي كان أجداده من أعتى مجرمي الاستعمار في منطقتنا وقتلة الملايين من أجدادنا دون خجل أو وجل، وسارقي ثروات الشعوب الأفريقية والعربية، إبان القرن المنصرم، والمستمرين حتى يومنا هذا في تأجيج الحروب والصراعات الطائفية بين الشعوب في وسط أفريقيا، حتى يتمكنوا من الاستمرار في امتصاص خيرات الأرض والشعوب، واستدامة دوران عجلة تجارة السلاح وبيعه لجميع الأطراف المتناحرة، بينما ينادون بالحرية والديمقراطية.
لم تكن فرنسا دولة ديمقراطية يومًا واحدًا في تاريخها، رغم أنها صاحبة أشهر ثورة ضد الظلم في التاريخ الحديث، فبعد الثورة الفرنسية تمت كتابة تاريخ منقوص، تحدث عن دولة يحلم الجميع بأن يعيش فيها ويحصل على كافة حقوقه التي كفلها الدستور والقانون، وتغاضى هذا التاريخ عن جرائم الدولة نفسها التي ارتكبتها في حق أناس آخرين، فكانوا يطلعوننا على الغرفة المضيئة، بينما كانت غرفها المظلمة تعج بالمؤامرات والقتل والتنكيل بشعوب أفريقيا.
وهذا الكلام لم أكن أنا أول من قاله، بل ذكره الكثيرون من كتاب ومؤرخين في الجزائر والمغرب وموريتانيا ومصر، بل إن أشهر الكتاب والمفكرين الفرنسيين انتقدوا سياساتها الاستعمارية، مثل الفيلسوف الفرنسي الشهير سارتر الذي كان من أبرز المنتقدين لسياسات بلاده وتناقضها مع قيم الحرية وأثرها على فرنسا نفسها، وأعتقد أنه أول من تنبأ بأثرها على فرنسا بما نشاهده في تلك الأيام.
ولكي نفهم التناقض بين ما عرفناه عن فرنسا وما يحدث من شعبها الآن، يجب أن نراجع التاريخ وأن نقرأ سياسة فرنسا دولةً استعماريةً، تتخفى وراء مكياج الدولة التنويرية والرائدة في الأدب والثقافة والفنون، بينما القناع يخفي وراءه وجهًا قبيحًا، فلا غرو أن يحدث ذلك وأن تظهر الطبائع المدفونة للإنسان الذي لم يعرف سوى العنف والتنكيل بأخيه الإنسان في أفريقيا، ثم يأتي ليقرأ علينا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويأمرنا بالبِّر وينسى نفسه.
مثل هذه الدول تقتل البشر في دول أخرى لكي توفر «الكرواسان» على طاولة الإفطار، وعندما حاولوا سحب قطعة من يد الشعب، قام الشعب بالتهامهم، وأثبتوا أنهم فرنسيو النزعة وأن تلك هي طبائعهم منذ القدم.
رئيس تحرير جريدة الديلي تربيون ورئيس منظمة الوحدة العربية الأفريقية لحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب