طباعة
sada-elarab.com/665828
تطور الإنسان وارتقاءه مرهون بأمرين كانت الأخلاق هى أولهما والعلم ثانيهما, ولما كانت الأخلاق للنفس, وصار العلم نتاج سلوك الفهم والادراك للعقل, وكلا النفس والعقل من مكونات الإنسان التى تحدثنا – سويا – عنها, ولما كان للعقل تعريفات عدة تحت عناوين الفلسفة - أم العلوم - وغيرها من العلوم الإنسانية مثل علمى النفس والإجتماع, وعلوم الدين كالتفسير والفقه واللغة وغيرهم كُثر, إلا أن أقرب تعريفات العقل والتى أميل اعتقادا وعاطفة إليها هى كون العقل (قبس من نور إلهى) وكأنى استدل بنظم الإمام الشافعى عندما عاتب نفسه عند استاذه وكيع عن غياب كرامة الفهم والحفظ عنه لبعض الوقت فغدى ينشد: شكوت إلى وكيع سوء حفظى .. فأرشدنى إلى ترك المعاصى .. وأخبرنى بأن العلم نور .. ونور الله لا يُهدى لعاصى. وأسرد العارف بالله ابو الحسن الشاذلى : ومن أمده الله تعالى بنورالعقل الأصلى شهد موجودا لا حد له ولا غاية,..
ولا اتحدث عنه عن قصد الأخلاق فى أبيات الشافعى إنما عن تفسيره للعلم بكونه نور إلهى, وهكذا الفهم والإدراك عند الشاذلى, ولأن العلم نتاج سلوك الفهم والادراك للعقل المُهدى إليه النور أو القبس لذا كان العقل بالكلية من فتوحات واشراقات وفيوضات الله على خلقه, وهنا لا أذهب بالعلم ومصدره (العقل) إلى الغيبيات لأن واقع الأمر أن ابداعت العقل لا ترتبط بالاعتقاد الدينى والمذهبى دون سواهما بل هى فقط هذه الابداعات من نتاج إعمال العقل, كما يردد البعض مقولة الجاحظ من ألف عام مضت: ان الافكارعلى قارعة الطريق انما (!) من يراها (؟) أو من يلتقطها (؟) وهنا العبرة من سرد هذه المقولة التى ترتكن إلى القدرة على الإنتقاء ما بين الغث والثمين وتلك من ادراكات العقل وإعماله ولاشك, بينما لا يرى الإنسان كما استدل العلم وأثبت إلا عندما ينعكس شعاع الضوء من الأشياء إلى عين الإنسان بجميع مراحلها التشريحية نهاية بوصول الصورة إلى العقل فيدركها, إذا فالأمر كله مسارات لأٍشعة الضوء, وبالمثل تبرق فى العقل الفكرة كومضة عدسة الكاميرا فى أزمنة متناهية الصغر كتلك التى حدثنا عنها عنها زويل صاحب نوبل, وكما يسرد الأدب وتقدم الدراما المعالجات البصرية التى تعكس كيف اكتشف نيوتن قانون الجاذبية من أمر تكرر ملايين المرات أمام ملايين البشر لكنه وحده نيوتن من رأى بعقله سقوط التفاحة من أعلى الشجرة إلى الأرض.
هكذا الذات العارفة أو المستنيرة ترى بالعقل وتمنحه فرصته فى الفعل والفصل, فهى ذات تعلم وتدرك كيفية إدارة مقدراتها فتمنح للعقل مساحات الكد والاجتهاد حتى ينتج لها ما تحتاجه من ايضاءات للمناطق المظلمة وهى التى استشكل على الآخرين رؤيتها وفهمها وادراكها, وهذه الذات المستنيرة بالعقل تعلم يقينا أين تضع خطواتها الواحدة تليها الاخرى بثبات لانها أضاءت طريقها بالعقل وصارت تملك الفعل ونواصيه وتمسك بزمام المبادأة وتتقلد مواضع الريادة فقط عندما تركت للعقل ان يقوم بدوره المخلوق له, وخلفها بمسافات تتخلف ذوات رفضت طواعية وقسرا اعمال العقل فى إضاءة دروب حياتها ففقدت من البداية تلك الحياة وباتت تغط فى ظلامية الجهل وعبثية الاساطير حتى تقيدت بأغلال الرجعية وانغمست فى غيابات التخلف, فلا هى فارقت وانقضى اجلها لترتاح بالموت والفناء ولا هى اختارت العقل لينير لها الحياة, فكانت ذاتا تفتفد أسباب الوجود وترضى بالتبعية كما الانعام التى لا تدرى من يقودها هل هو واحد من العميان من جنسها يقودها إلى المجهول؟!, أم هو من غير بنى جنسها ككلب رعى وارتضت تلك الذوات الظلامية ان يقودها كلب! أو ذيب (ذأب) ينال منها واحدة تليها أخرى ويسير بها إلى مذبحها! وهنا تبرق حكاية نهايتها تقول: أكلت يوم أكل الثور الأبيض!.
الذات المستنيرة العارفة ليست بالضرورة من زمرة العلماء ولا المفروض ان تكون ذاتا خلاقة أو مبدعة إنما هى فقط ذات تملك مشعل العقل وتسعى لإثبات وجودها فلا وجود لغير عاقل وإن كان يتنفس ويأكل ويشرب كبقية الكائنات إنما هو كصفر عددى موجود إلا انه لا يمثل أية قيمة إلا عندما يكون تابعاً لغيره وفقط! وهنا يختار الإنسان بإرادته التى سيتخلى عنها فور تحقق هذا الاختيار مباشرة, يختار أن يكون عبداً أسيراً لغيره يرضى بكل ما يفعله به مولاه كأن يسوقه إلى الهلاك عندما يكون كلاً على مولاه, أو أن يبقيه فى ظلامات الجهل حتى لا يملك إرادته ثم حريته ثم وجوده الحقيقى, ويتحول بإنعدام وتبدد نورعقله إلى مفعول به.
وهنا صاغ الأدب رائعة فيكتورهوجو (أحدب نوتردام) التى ارتضى فيها هذا الاحدب كوازيمودو أن يكون أسير لسيده الظالم دوق كلود فرولو الذى غيب عقل هذا الاحدب وأملى عليه معارفه التى تشى بالخوف من القادم مما قتل روح المغامرة والخلق داخله, وأزهق فى قلبه حب الآخرين وصنفهم أعداء يهددون وجوده المعدوم!, وأفهمه ان العبادة الحق هى فقط طرق أجراس كنيسة نوتردام حتى يوقظ الأخرين الغافلين, وهكذا حاك أصحاب صكوك الغقران والوجوه العابسة والأصوات المنفرة والسلوك الشاذ لتابعيهم من العميان أنهم هداة النور, وهم فقط دعاة الطُهر, ولا سواهم يملك مفاتيح الجنان ويعرف دروب أبوابها, وهم من يفتون بالفناء لغيرهم من عميان العقل ليبقوا هم خالدون كما مصاصى دماء التى ألفها برام ستوكر عن (دراكولا) أو (فلاد) هذا الذى عاش وخُلد على مص دماء الآخرين, تماما كما يفعل هؤلاء الذين يغيبون عقول العوام ويصورون لهم ان الحياة فى الفناء من أجلهم, رغم انه بقليل من جهد العقل ندرك أنهم يقولون ما لا يفعلون.
وعلى كل منا ان يدرك عِظم وقيمة الإختيار ويقيم ذاته ويصنفها ما بين المستنيرة الفاعلة والظلامية المفعول بها .
وسيأتى الحديث عن الذات البناءة والهدامة, وغيرها العادلة والباطشة, ونستكمل فى القادم إن شاء الله لنبنى أركانا جديدة فى المصرى الجديد بعد اكتشافه لذاته وادراكه لامكاناته فى التغيير, وعلى الإنسان أن يُعيد تقيم ذاته ليرسم بيده ملامحه ليست الشكلية قط وانما الباطنة أيضا, ويعود كما كان أجداده الأصل وأصحاب الفعل وليس الشبه والمفعول به!.