طباعة
sada-elarab.com/663975
لما كان الانسان كائنا موجودا بتفاعل عناصره معا وتضافر مكوناته لا انفصام بينها وما كان لهذا الوجود ان يتحقق الا باتصاف الروح والنفس والعقل والضمير والذات بالتحرك والتغير والتطور حتى يكون انسانا مثمرا, موقرا, ومتجدد الطاقات وواهب للانسانية حقيقتها وكنهها, ولن يتأتى التغير والإرتقاء الا لذات حرة اعتادت سلك مسالك الاحرار وارتياد دروبها, فالذات الحرة تملك مفاتيح الحرية وتمارس السيادة مظهرا وجوهرا, فلا يمكن ان يتولد الابداع من رحم العبودية, ولا اعمال حقيقى للعقل الا وهو محلق متعدى للمجالات التى يحدها القيد وحتى لا يكون الحديث فضفاضا, رومانسيا, وغير حقيقا فإننا لا ننكر وجود الاقدار الموازية وهى تلك التى تتقاطع مع الذات الحرة لتعوق ممارستها لفعل الحرية وتعرقل مسيرتها الانسانية, كما ان الحديث عن ذاتا حرة لكنها لايعنى انها تملك القضاء ولا تحكم القدر, فهى ليست فى عالم اليوتوبيات او المدينة الفاضلة بل هى تتعايش بحقيقة وجودها فى اطر الصراعات الحاكمة لقوانين الوجود, ولا اتصور ثمة ما يمنع عقل الذات الحرة من الابداع ومجالها الجسدى المادى حبيس القهر والظلم, كما سطر - تحت نير ورقابة السجّانين - انتونى جرامتشى فى 1920 كراسات السجن متحدثا عن دور المثقف العضوى فى الارتقاء بانسانية مجتمعه رغم كون جسده تحده جدران سجن الفاشى موسولينى, الا ان عقله مارس حرية الفكر وطلاقة الابداع, ولم يكن ابو العلاء المعرى وطه حسين وبيتهوفن وغيرهم حبيسى الاعاقة بل احراربعقولهم التى كسرت قيد الإعاقة وقاومت صور المنع فى الابداع, وقد يكون القيد فقرا فتكسره الذات الحرة كما فعل غاندى وتنازل طواعية عن اسباب الحياة الا ان تكون ذاته حرة لا تنكسر امام قيد حتى اجبر العالم المتجبر من الانصياع لارادته, ولم تكن فى الظروف المتواضعة من جهل محيط بالانسان قيدا لذاته بل كانت سببا فى التحدى لمن يحمل تلك الذات الحرة كما فعل العقاد وكسر قيد الجهل وندرة امكاناته وعلّم نفسه بنفسه ولم يرضى ان يتعلل بالظروف ويكون عبدا للجهل, وغيرهم من الذين تحدوا الواقع الجامد الظلامى وارادوا التحرر منه رغم مخالفتهم للمجموع الباطش كما هو سقراط الاغريقى الذى جاء بعكس ما تحدث به الجميع وقال بكروية الارض عندما لاحظ بان الظل الذى تتركه الارض على القمر اثناء خسوفه يكون دائريا, ولم يرض ان يتنازل عن منطقية عقل ذاته الحرة ويدخل قفص المجموع الجاهل, واختار بإرادة حرة الحرق عقابا على مخالفة رأيه الذى يعتقد بصوابه عن الجمود والسكون والرجعية المتخلفة لهؤلاء المجاميع الذين يقودهم العميان كما وصفهم شكسبير فى رائعته الملك لير, او مجاميع العربة المعصوبة التى نظّر لهم ريتشارد ماكلوهان, واختار سقراط الحرق لتبقى ذاته حرة, هذه الذات تبقى حرة ليس لامر سوى انها خلقت من صنوف الاسياد وليس من العبيد هؤلاء الذين يرضون بفعل العبودية, وان كانوا يملكون القوة الا انهم لا يمارسونها, ويتنازلون عن سلطانها طواعية, وهؤلاء الذين يرفلون فى نعيم المادة الا انهم عبيد لأموالهم, وهؤلاء الذين ينعمون بصحيح الابدان الا انهم اسرى الخوف من محاولة العدو فيسبقهم مكفوفى البصر مستنيرى البصيرة وفاقدى الاطراف مالكى الارادة, فكانت الذات الحرة تملك عقلا مبدعا محلقا لا تحده حدود الأسر, وتملك روحا متجاوزة للقيد مها كانت صوره, وتملك نفسا ابية لا ترضى الخنوع والانبطاح, وتملك ضميرا اعتاد التأنيب يقظا وفى القٍ دائم, هذه الذات تنعم بحياة الدنيا وتؤمن بألف حياة اخرى, فلا تضن على حريتها بواحدة من هذه الألف, وتلك مقومات الذات الحرة لا يقيدها الفقر او الجهل او المرض او القوة او السائد او الواقع, اما هذه المسكينة الحبيسة فهى ذات تسير خلف الاولى دائما, وطواعية تتحرك صوب اساور القيد وان كانت ورقا او ذهبا او مرصعة بالنفيس, وتضع الاغلال فى اعناقها لا فى يديها - وفقط - كما الانعام تُقاد من اعناقها, ومسخرة لخدمة اسيادها الاحرار, هذه الذات لا تملك بل وهُبت روحا جبانة تخشى الموت - على حياتها الوحيدة! - فى سبيل اوطانها فلا تُقدم على التضحية لانها تعتقد فى الحياة الدنيا فقط مهما ادعت من ايمان وتدين زائف, وايضا وهُبت تلك الذات نفسا وضيعة ترضى بحياة اقل الكائنات وادناها فى الخريطة البيئية كما الخنازير ترضى العيش دون كرامة عوضا عن الموت بعزة, ووهُبت تلك الذات ضميرا فضفاضا, مطاطا, ومرنا لاقصى مداياته, يغط فى سبات ابدى كفر بالمراجعة لذاته واطاح بميزان حسابها, ولا شك ان هذه الذات وما معها (وليس من معها!) فى المرتبة المتدنية من الانسانية فهل يتصور عاقل انهم سيقودن العالم, او يرتقون به, او يضيفون للانسانية جديدا لنسقها الاخلاقى, او يزيدون تراكم رصيدها المعرفى, ام سيكونون - بالتأكيد – اثقال تبطىء من تقدم الانسانية واحمال تزيد من اعباء الارتقاء, وتلك مقابلة بين ذات حرة واخرى حبيسة.
وسيأتى الحديث عن الذات الدمثة والذات المتبجحة, ونستكمل فى القادم ان شاء الله لنبنى أركانا جديدة فى المصرى الجديد بعد اكتشافه لذاته وادراكه لامكاناته فى التغيير, وعلى الانسان ان يعيد تقيم ذاته ليرسم بيده ملامحه ليست الشكلية قط وانما الباطنة أيضا, ويعود كما كان اجداده الأصل واصحاب الفعل وليس الشبه والمفعول به!.