طباعة
sada-elarab.com/628120
القيصر الروسي فلاديمير بوتين فتى ال KGB "جهاز المخابرات السوفييتي السابق" لا أحد على وجه الأرض يستطيع قراءة ما يدور في عقله، أو يتوقع خطواته وقرارته المقبله على الإطلاق، فلا ينفك خصومه عن وصفه بالدهاء، وبأن طموحه السياسى أربك المشهد العالمى بكل المقاييس.
بعدما أعاد رسم صوره جديده تدريجية للسياسة الخارجية الروسيه لبلد كان يعتبر غارقاً ومُنهك فى متاعب ما بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي السابق مطلع تسعينيات القرن الماضي، وخلف هذا الإنهيار تفرداً أمريكياً نما من خلاله مفهوم القطب الواحد أو الأوحد بمعنى أدق.
من وجهة نظري إستطاع القيصر الروسي فلاديمير بوتين أن يعيد الإمبراطورية الروسية إلى الخارطة الدولية بعد سنوات من الغياب، ولم أراه ديكتاتوراً كما يظن القليل أو كما يتهمه البعض، ولعل غزو جورجيا بشكل خاطف وسريع كانت رساله واضحه وصريحه ومباشرة وساخنه للغرب عام 2008 وهو رئيساً للوزراء بأن روسيا قادرة على الدفاع عن نفسها ضد أعدائها.
شخصية القيصر الروسي فلاديمير بوتين "ليست سهله" فهو داهيه وملك لعبة الشطرنج بجميع المقاييس، فالرجل إستطاع ترتيب ملفات كبيرة في روسيا سواءًا على الصعيد الداخلى والخارجي منذ وصوله للسلطه، فهو يجيد اللعب بالألفاظ والمصطلحات باحترافية تامة، بل والأعجب يمتلك مهارة اللعب على حافة الهاوية.
بوتين الذى يتخذ قرارات مدروسه ومحسوبة ودقيقه، زعيم محبوب ولديه كاريزما خاصه، وقيصر مخلص لروسيا وللعالم مما يسمى الإمبريالية الأمريكية، ولديه طموحات وتطلعات أبرزها إعادة الإمبراطورية السوفيتية السابقة، وهذا حق وحُلم مشروع، ويدرك جيداً ويعلم علم اليقين أنه ليس الهدف الأول للغرب الذى يحاول إعادة ترتيب محوره لمواجهة الصين فى المستقبل القريب.
الملفت للجميع والواضح والواقع أن الدب السوفييتي إستعاد قوته وشرع في تكوين قوته الجديده بخطط جديده وتحت إسم جديد، ولم يعد دباً ثقيل الوزن الزائد والحركه والإيقاع، وأصبح ثعلباً رشيقاً خفيف الوزن يجيد الحركه والمناوره والتكتيك واختطف طريقة الخصم التاريخى فى العمل ويؤديها بإتقان وتفان وفاعليه.
وما زال يتطلع القيصر الروسي إلى أن يعيد أوكرانيا إلى الفلك الروسى، وينظر اليها على أنها جزء من مجال روسيا الحيوي والإستراتيجي والإقتصادي والثقافى أيضاً. فى المقابل تريد أوكرانيا ذات الميول الأوروبية أن تتحصن خلف الأزمة الحاليه لتكرس إنتمائها إلى الطرف الآخر لتحصل على دعمه ومساعداته.
بوتين حدد منذ بداية الأزمة مع أوكرانيا خريطة أهدافه ومحركات مواقفه تجاه أوكرانيا، بل وتجاه كل دول أوروبا الشرقية، وهى ألا يكون لحلف شمال الاطلسي الناتو وجود على حدود بلاده، وهذا حقه تماما تماما، فهو يرى أن أوكرانيا تديرها قوى خارجية وأجهزة إستخبارات أجنبية، تعمل على تشجيع المخربين والفوضاويين في أوكرانيا لجر روسيا للنزاع والصدام.
وبالأمس أطلق فلاديمير بوتين قذيفه مدوية في وجه أمريكا والغرب بل والعالم أجمع، بإعترافه باستقلال "لوهانسك و دونيتسك" فى خطوة جريئة وعنتريه وشجاعه منه، ولم يعطى أو يعير للناتو أدنى إعتبار، رغم أن الخطوة كانت متوقعه مما أغضبهم وأصابهم بحالة "دوار" وعدم إتزان، بل وجعل الرئيس الأمريكي جو بايدن في حاله يرثي لها، وظهر متخبطاً فى قراراته، متلعثماً فى مصطلحاته، ولم يستطع حتى تجميع كلماته لينطق جمله واحده مفيده.
زلزال بوتين أمس وصلت إرتداداته وتوابعه جميع أنحاء الكره الأرضيه وجميع أنحاء العالم، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، مما جعل ردود الأفعال الغربيه تتوالى وتتسارع وإعلان العقوبات يأخذ منحنى آخر بشكل تصاعدى، بل وعقدت جلسه لمجلس الأمن الدولي طارئة بسبب هذا القرار للقيصر الروسى، وأيضاً إرساله قوات تحت مسمى "قوات حفظ السلام" لحفظ الأمن هناك.
لكن بوتين بإختصار كده لا يعير لهم وزناً، ولا يلتفت إلى عقوباتهم المزعومه، فهو متوقع ردة فعلهم وكل شئ مؤكد يضعه في الحسبان، وبمعنى أدق يقول لأمريكا والغرب اضربوا رؤوسكم في الحيط، مهما كانت عقوباتكم قاسيه ومريره، بوتين قام بغزو أوكرانيا تحت "مسمى آخر" وحقق ما يريد، فهو يجيد التلاعب أو اللعب بالألفاظ كما أوضحت سابقاً، ورهانات موسكو الآن رابحه، فقد إستطاع فرض ما يريده على الدول الغربيه.
وأعتقد أن تطورات الأمس المتسارعه وهذا الصدام السياسي الساخن بين روسيا والناتو تؤكد وتوحى بأن هناك حسابات كامنه فى الرؤوس لا سيما رؤوس "الروس" بقيادة بوتين، وهى أكبر وأكثر تعقيداً من تراب "دونباس" الأوكراني، ومن شبة جزيرة القرم، ومن حدود تمركز قوات الناتو.
الرئيس الروسى فلاديمير بوتين يتجاهل الجميع، وتقدمه بالأمس فى الإقليمين هو اعتراف شكلى بالواقع الذى ساد الأرض خلال السنوات الماضية، وتأكيد على الأمر الواقع بأن هذان الإقليمين كانا مستقلين في الوقت السابق.
روسيا تتحرك الآن كقوة عظمى وتطلب ما تريده وتفرض شروطها بثقه، فالقصه ليست أزمة أوكرانيا بل صراع نفوذ بين روسيا وأمريكا هذه هى الحقيقه دون أي مزايدات.
تحرك الأمس تحرك تكتيكى من القيصر الروسي، ولسان حاله يقول: أنتم لا تريدون التراجع، أنا سأتقدم إلى الأمام. فالوضع على الأرض لا يمكن أن يستمر هكذا، فقد يتغير فى وقت ما.
الحل الدبلوماسي هو شعار الأوروبيين ولابديل لهم، وضمانات فلاديمير بوتين ورسائله الضمنيه لم يتراجع عنها، وهى الضمانات المكتوبه الموثقه.
مناورات سياسيه جديده من قبل بوتين، وروسيا تعطى الغرب أيام معدودة لتحديد موقفها، نعم الرد الأوروبي سيكون حازم وقاسي، ولكن لا أعتقد أنها ستكون عقوباته مؤثرة لروسيا، ومؤكد سيفتحوا باباً للحوار.
إن حرب التصريحات الرسميه بين الناتو وروسيا دخلت سلم العد التنازلي للمناورات والتكتيكات، فالحروب الكبيره بين العمالقه لها تقنيه فكريه، وتكاد تكون قواعد ثابتة مثل أي فن من الموسيقى إلي الروايه والمقالة الأدبية والألعاب الرياضيه المختلفه، إلخ إلخ..
وما إتخذه بوتين ملائم جداً جداً لحماية الأمن القومى الروسى، وخطوة الإعتراف هذى نسقت كل شيء، فلا أحد يعلم ما يدور في عقل هذا الداهية السياسيه ويمكن أن نرى اليوم وربما الليله وغداً قرارات أخرى، فهناك جمهوريات أخرى بخلاف التى اعترف بها، ممكن أن نرى فيها تحرك للإنفصاليين، أقولها بإختصار فلاديمير بوتين لم ولن يسمح بإستخدام البحر الأسود للناتو أكثر من ذلك قولاً واحداً..
بوتين ذكر بأن أوكرانيا مستعمره امريكيه كالدميه فهو محق في ذلك، لا سيما وأن كانت أوكرانيا دينامو الإتحاد السوفييتي السابق، قبل أن تسقط في براثن الكواهين من خلال ثورة الألوان البرتقالية 2004 وتم تعزيزها بأخرى 2014..
الخلاصه بوتين يعلنها مدوية بأن أحادية القطب الواحد قد إنتهت، ويرسم الآن خريطة العالم الجديد بقلمه الذهبي، الروس الآن يستعرضون قوتهم، وأن بإمكانهم تدمير العالم بأسرة، ومطالبهم واضحه وصريحه ألا وهى العوده الى ما قبل عام 1997 للناتو، وضماناتهم المكتوبه الموثقه. هذه هي طلبات روسيا التى لا تقبل القسمة على إثنين، وعلى الغرب وأمريكا أن يتحملوا المسؤولية، ولكن هذا لا يعنى أن الأبواب كلها أغلقت. فما زال باب الدبلوماسية موارباً لم يتم إغلاقه.