كنا أطفالاً وكانت أسئلتنا لذوينا صعبة فلا هم استطاعوا الإجابة على تساؤلاتنا، ولا نحن وجدنا ضالتنا فيما كنا نسأل عنه، كانت أسئلتنا بريئة تتمثل في كيف خلقنا، وهل بإرادتنا نغير الأشياء، هل لنا إرادة أم أننا لا نملك الإرادة ومن المسؤول عن اختيار أسمائنا، وكانت هذه الأسئلة وغيرها لكثرة تكرارها، مبعث ملل وسأم لمن يكبرنا ولا يجدون مفرًا إلا الإجابة عن بعضها وربما بخجل شديد، وكانوا ينهروننا عن أن نخوض في إرادة الخالق جلا وعلا، وعندما كبرنا وطرحنا أسئلة أكثر تعقيدا كنا نسمع من يقول لنا: استشهادًا بالآية الكريمة: «يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبدى لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم» سورة المائدة، الآية (101).
ونحن اليوم في
هذا الزمن الصعب نواجه أسئلة محيرة ومعقدة تمس الوجدان والعقل في الصميم من أطفالنا،
فهم يسألون عن أوضاعنا السياسية والإقتصادية ومتى تنتهي المآسي، ويسألون عن ماذا سيعملون
بعد أن ينهوا دراستهم؟! وما مصير أولئك الأطفال الذين لا مأوى لهم ولا مدارس يلجأون
إليها؟! وطبعًا يحرجوننا في أسئلة تتعلق بالنت ومختلف وسائل التواصل الإجتماعي وإذا
بنا تحت طائلة إنكشاف المستور، فهم أكثر منا قدرة على فهم معطيات التقنية الحديثة،
وإذا السؤال يقفز لدينا نحن بدورنا ونسأل وما من مجيب إلى أين نحن سائرون؟! وما مصيرنا
إن كتب لنا العمر في سنوات قد تطول وقد تقصر؟!
وليس بالمستغرب
أن يتم طرح خطورة استغلال بعض وسائل التواصل الاجتماعي في الإرهاب وأعماله الشيطانية
في الدورة الحالية الثانية والسبعين للأمم المتحدة بنيويورك، وإذا بالرئيس الأمريكي
ترامب وغيره من رؤساء الدول يثيرون هذه الإشكالية التي ابتدعوها هم أولا في بلدانهم،
وكنا نقول بشأن الاختراعات الحديثة يومًا أنها «حيادية» بحد ذاتها، وتكون سلاحًا عندما
تستغل لأغراض أخرى، فبقدر ما فيها من فائدة بقدر ما فيها من تدمير، ومن هنا فإن الإنسان
أو قل المرء هو من يحول المادة «الحيادية» بتكوينها وطبيعتها من إيجابية إلى سلبية
لأغراض في نفسه.
عمومًا تظل أسئلة
الأطفال مع تقدم الزمن وتطور الحضارة وتعقيد مفرداتها أكثر عمقًا ومشروعية، ونظل في
حيرة من أمرنا، ونحن نرى من حولنا ظروفا سياسية وإقتصادية ومالية واجتماعية وثقافية
معقدة غاية التعقيد ونسمع بين فترة وأخرى من يقول:
اشتدي أزمة تنفرجي
قد آذن ليلك بالبلج
استشهادًا بقصيدة
لأبي الفضل يوسف بن محمد بن يوسف التوزري المتوفي عام 513 هـ.
كما يوعدنا بعض
رجال الفكر بأن الثقافة تقرب الناس أكثر، وأن الاهتمام بالتراث يعيد إلينا صوابنا،
وهناك من يقول: إن الرياضة بمختلف ألعابها تقرب الشعوب بعضها من بعض، وإن كانت بعض
المنافسات الرياضية قد خلقت حروبًا بين دولة وأخرى ولكن هذا يعتبر من الشواذ الذي لا
يقاس عليه.
عندما نغشي الأسواق
والمجمعات التجارية أو الأندية الرياضية والاجتماعية ونشاهد الأطفال والناشئة والشباب
نضع أيدينا على قلوبنا، فنحن شئنا أو أبينا مسؤولون عن مستقبل هؤلاء ومنوط بنا توفير
الأمن والأمان والاستقرار لهم، ومعنيون بحمايتهم وضمان مستقبلهم ناهيك عن لو أنك قمت
بزيارة المدارس في مختلف مراحلها الدراسية إلى الجامعات فقطعا ستشعر بالرهبة والخوف
من المستقبل، وفي نفس الوقت ستشعر وأنت الأب أو المربي بالفخر والاعتزاز لهذا الإقبال
الكبير من الأبناء على التحصيل العلمي والدراسي ولكنك أيضا تستشعر عظم المسؤولية الملقاة
علينا كآباء ومخططين وسياسيين، وتربويين.
فالمستقبل هو ثمرة
نبت الحاضر وغرس الماضي ونحن معنيون شئنا أم أبينا بالحفاظ على ما يسمى «صندوق الأجيال»
ليس ماديًا فقط بل معنويًا وواقعيًا، فالاستثمار في الحاضر هو ضمان للاستمرارية المستقبلية....
ذات صباح تأملت
أغنية للفنانة الكبيرة الراحلة وردة الجزائرية 1939 2012م بعنوان «بوسة على الخد» وهي
من كلمات الرائع عبد الوهاب محمد 1930 1996م وألحان الموسيقار العبقري بليغ حمدي
1931 1993م وكأن هذا الثلاثي المبدع يستشرف الحاضر وينظر إلى المستقبل مع الخوف الطبيعي
على الأبناء وفلذات الأكباد فالأغنية تقول:
بحبك قد روحي لا
لا أكتر بكتير
نفسي أغمض وأفتح
ألاقيك بقيت كبير
والدنيا مفتوحالك
وبتحقق آمالك
قد ما قلبي دعا
لك لا أكتر من كده
يا عيون ماما أنت
قولي طالع لمين
جميل بالشكل ده...
جميل بالشكل ده
إنه شعور الأم،
وما أدراك ما شعور الأم ووردة الجزائرية هنا تألقت في أدائها وساعفتها الكلمات والألحان
في أن تعبر بشعور دفين عن الأم الذي لا يدانيه ولا يسايره أي شعور إلى أن تقول:
روحي قلبي أنا
بكره تيجي هنا
وأشوفك جنب ماما
يا جميل طول السنة
وتعدي السنين وألاقيك
بعد السنين راجل وملو العين
يا عيون ماما أنت..
قولي طالع لمين
جميل بالشكل ده..
جميل بالشكل ده
إلى أن نصل إلى
غيرة الأم وإشفاقها على ابنها، وإسداء النصيحة له، والنظرة المستقبلية له فتقول:
عايزاك تخلي بالك
من روحك ليل نهار
وتكون صديق لبابا
زي أصحابه الكبار
وتذاكر باهتمام
وتسمع الكلام
وأنا أجبلك كل
حاجة وأبوسك على الدوام
يا عيون ماما أنت
قولي طالع لمين
جميل بالشكل ده..
جميل بالشكل ده
لم يكن عبد الوهاب
محمد في هذه الأغنية إلا صادقا، فهو وإن عبر عن شعور الأم «وردة الجزائرية» إلا أنه
عبر بما لا يدع مجالا للشك عن شعور الأب، أي أب يحب أبناءه ويخشى عليهم من عوادي الزمن
ويرأف بهم.
فنحن وإن تعقدت
أسئلة أطفالنا وتنوعت، وأصبحنا في موقف لا نحسد عليه فعلينا أن نجيب على أسئلتهم الصعبة
بكل جرأة ورباطة جأش وصدق وشفافية، فالمستقبل أمامهم وأسئلتهم كاشفة لهذا المستقبل
الذي نرجو من الله أن يكون مشرقًا.
وعلى الخير والمحبة
نلتقي