طباعة
sada-elarab.com/572702
لم تعُدْ صفة الذكاء مقرونةً ببني البشر فقط؛ فلقد فرضَ واقعنا الذي نحياه مَنْحَ صفة الذكاء لأشياء أُخَر متعدِّدة، لم نعتد وصفها بالذكيَّة إلَّا منذ أعوام قليلة مضت، وإنْ عجَّلتْ تبِعات جائحة كورونا ببزوغ أهمية وجود بعض هذه الأشياء الذكية، بل بالحاجة إليها والاستعانة بها، وأيًّا ما كانت المسببات؛ فهذا هو الواقع الذي أصبحنا نعيشه ونتعايش معه.
فقد بات التعليم ذكيًّا، بل الاقتصاد ذكيًّا، والعقود ذكية، والحكومات ذاتها ذكية، مرورًا بالمدن والمباني والمركبات الذكية! بل البِنَى التحتية ذكية، وصولًا للمعيشة الذكية!...
وفي البداية أُشير إلى أنَّ هذا التناول قد هدفت منه لتحقيق أمرين؛ أولهما: بيان المراد بهذه الأشياء الذكية في مقام واحد متصل بعدما أضحى وجودها وجودًا حقيقيًّا لا لبس فيه، وثانيهما: تحفيز الحكومات بل والشعوب لتَلمُّس السبل الموصلة للحاق بركب هذه الأشياء الذكية.
ولعلَّ التعليم الذكي هو أكثر الأشياء الذكية المعروفة من قبل الكورونا، وإن طغت الحاجة إليه بعدها؛ امتثالًا لمقتضيات التباعد الاجتماعي، فهو وجه من وجوه التعليم عن بُعْد، يعتمد على استخدام منصَّات تعلُّم إلكترونية تفاعلية، تجمع بين أقطاب العملية التعليمية (الطلاب والمدرسين وأولياء الأمور والإدارات)، وتُتيح للمعلِّم تطبيق الأساليب التربوية والتعليمية الحديثة.
وإجمالًا، فهذا الوجه من وجوه التعليم على أهميته إلَّا أنَّ كثيرًا من التحفُّظات ما زالت تحوم حوله.
وبالنسبة للاقتصاد الذكي ومرافقاته فهو نقلة نوعيَّة تهدف لتحويل الاقتصادات العالمية لاستخدام التكنولوجيا لزيادة الإنتاجية؛ نظرًا لترابط المشاركين على المستويين المحلي والدولي، ففكرة الاقتصاد الذكي ترتبط بشكل كبير بالقدرة على الابتكار من جانب الأفراد.
صحيح أنَّ هذا الأمر موجود بالفعل بنسب متفاوتة في الدول المتقدمة والنامية كذلك؛ إلا أن معظم الدول ما زالت بحاجة إلى تأسيس قواعد تكنولوجية تتناسب مع المتغيرات الحتميَّة المقبلة، بعدما شهدت التجارة الرقمية تطورًا هائلاً ببزوغ فجر الإنترنت، ولدولتي الإمارات وكوريا تجارب تُحتذَى في هذا الصدد.
ومن أهم جوانب الاقتصاد الذكي: المدن الذكية (التي نشأت بعد عام 2000 تقريبًا)، وهي تَفترِض أن يكون سكان هذه المدن الذكية أنفسهم سكانًا أذكياء مبتكرين ومبدعين، ويتَّسمون بالمرونة الشديدة بجانب تعدُّد ثقافاتهم وترابطهم بالشبكة؛ فمدينة الاقتصاد الذكي تعتمد بشكل أكبر على مشاركة المواطنين بغرض تحسين حياة سكانها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، باستخدام الوسائل التقنية الرقمية المستحدَثة؛ كالرصيف الذكي الذي تَفضَّل بشرح فكرته في سياق قانونيٍّ ثاقب أستاذنا الدكتور: أحمد عبد الظاهر في مقالته المنشورة بجريدة الوطن بعنوان: الطريق إلى المدينة الذكية.. الرصيف الذكي.
وبحسب التقارير الصادرة مؤخَّرًا عن أكثر المدن ذكاءً حول العالم؛ فقد جاءت مدينة لندن البريطانية في المركز الأول، تلتها مدينة نيويورك الأمريكية، وثالثتهم مدينة طوكيو اليابانية، بينما حلَّت في المركز الرابع مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية.
وطبيعي أن تستظلَّ أوجه الذكاء السابقة بحكومات ذكية؛ تلك الحكومات الإلكترونية التي تعتمد على التطور في استخدام الخدمات والإجراءات الحكومية، وتهدف لدفع عجلة التحول الذكي للجهات الحكومية.
ولعلَّ من أجمل ما قيل في وصف مبادرة الحكومة الذكية لدولة الإمارات -مثلاً- التي تم إطلاقها عام 2013 أنها: حكومة لا تنام، تعمل 24 ساعة في اليوم، 365 يومًا في السنة، مِضيافةً كالفنادق، سريعة في معاملاتها، قوية في إجراءاتها، تستجيب بسرعة للمتغيرات، تبتكر حلولًا للتحديات، تُسهِّل حياة الناس وتُحقِّق لهم السعادة، مع التأكيد على أنَّ الحكومة الذكيَّة لا تحلُّ محلَّ الحكومة الإلكترونية، إنما تُكملها وتُشكِّل امتدادًا لها، ويتعايش هذان المفهومان ويتضافران لتحقيق أهدافٍ متكاملة تتمثَّل في إسعاد المواطن وتسهيل حياته.
أمَّا عن المباني الذكية فهي ليست مناطق للعمل والمعيشة فقط، ولكنها أيضًا تُعدُّ استثمارات؛ فهي مبانٍ مصمَّمة بتقنية المعلومات؛ إذ تَستخدم المباني الذكية أجهزة إنترنت الأشياء مع التحليلات المتقدِّمة للمساعدة في زيادة عمليات الأتمتة المباشرة، وتحسين صيانة المباني، والأمان، وإدارة المباني لتحسين استهلاك الطاقة والراحة، إلى غير ذلك، مع العلم بأنَّ (إنترنت الأشياء) مصطلح يُراد به الجيل الجديد من الإنترنت الذي يُتيح التفاهم بين الأجهزة المترابطة مع بعضها؛ كاستخدام الأدوات والمستشعرات والحسَّاسات وأدوات الذكاء الصناعي المتعددة؛ حيث إن استخدام التقنيات الذكية والموفِّرة للطاقة يُمكِّن المباني الذكية من توفير 50٪ أو أكثر من الطاقة، مقارنة بالمباني التقليدية.
ومن خلال مضاعفة توفير الطاقة عبر المدن، يمكن أن تكون هناك مخزونات ضخمة من الطاقة، وإذا كانت المباني ستتطلَّب طاقة أقل، فإنَّ محطَّات الطاقة لن تحتاج إلى إنتاج الكثير من الطاقة؛ الأمر الذي يمكن أن يقلِّل من الانبعاثات الخطيرة، وكذلك كمِّية الموارد الطبيعية المحروقة لتوليد الكهرباء.
ومن أشهر المباني الذكية في العالم: مركز (دوك إنرجي الذكي) بالولايات المتَّحدة، ومبنى (ذا كريستال وكابيتال تاو الذكي) بلندن؛ أحد المباني الأكثر خضرة واستدامة في العالم.
وأخيرًا وليس بآخر: هناك المركَبات الذكية، التي -كما يبدو من اسمها- تعتمد على وسائل النقل والمواصلات ذاتية القيادة.
لك أن تتخيَّل أيُّها القارئ.. كَمَّ التغيير الذي يمكن أن يحدث في حياتنا إذا ما طُبِّقت صور الأشياء الذكية المذكورة.
وختامًا: بَقِيَ مهمًا التأكيد على أمرين اثنين؛ أولهما: أنَّ الأشياء الذكية التي ذُكِرت بالمقالة موجودة بالفعل بصور متفاوتة، ولكنها مازالت بحاجة إلى تعزيز وتنمية لاستدامها، ثانيهما: أنَّ صور الأشياء الذكية المذكورة ليست للحصر بل للمثال؛ وبالتالي فهي قابلة للزيادة؛ فإلحاق صفة الذكاء بأيٍّ من غير هذه الأشياء سيظل متصورًا مادامت التكنولوجيا موجودة؛ فالأول يدور في فلك الثانية.
الدكتورة: هايدي عيسى.. مدرس القانون الدولي الخاص كلية الحقوق - جامعة القاهرة
للتواصل مع الكاتب [email protected]