طباعة
sada-elarab.com/147790
يهتم المسلمون في شهر رمضان بقراءة القرآن الكريم ، ففيه إشراقات .. أيامها بركات، ولياليها ركعات، وساعاتها دعوات، وقرآن وصلوات ، واعتكاف وخلوات .. إنه رمضان .. الشهر الذي يشمل الله فيه العباد بالرحمة في أوله، وبالمغفرة في أوسطه ، وبالعتق من النار في آخره ..
ويفرح المسلمون – في شتى بقاع الأرض - بقدوم شهر رمضان ، لما فيه من تجليات ، وفيوضات .. وما يمثله من فرصة سنوية لتجديد العهد بالعبادة ، والوعد بالإخلاص .. ومن ثم – وباللزوم العقلي – عدم معاودة اقتراف الآثام للنفس، والبعد عما يسبب الآلام للغير.
وها .. وقد انتصف هذا الشهر الفضيل .. فقد آن الأوان لنا جميعًا أن نقدم كشف حساب لرب العباد .. عن المعنى الحقيقي الذي جعله يحتل هذه المكانة المتميزة دون شهور العام .. واختصاصه بأنه شهر القرآن .. وهل تلك العبادة هي المقصد الرئيس من تشريع أحد أهم أركان الإسلام فيه وهي فريضة الصيام والذي اختصه الله عز وجل بالجزاء عنه في الحديث القدسي ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قَالَ اللَّهُ : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ) ؟ أم أن مقاصد التشريع الإلهي في صيام نهار رمضان وقيام ليله ، تتجسد في إدراك الغايات الكبرى لشهر القرآن وهي ترَسُّم معانيه ، وتتبع مراميه ، بما يحقق الوعي بأحكامه وقواعده التي ينصلح بها أمر البلاد والعباد ؟
المتأمل من حكمة التشريع الإسلامي في عمومه ، ومن شهر رمضان بالقرآن في خصوصه ، يمكنه أن يرصد ثلاثة محاور تدور حولها تلك الحكمة ؛ أولها : أن الإسلام دين سماوي عالمي دائم متجدد ، أي أنه لم يُرسل لفئة معينة أو في زمن محدد (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء / 107 ، ولا يدعي أحد كائنا من كان أن ينصب نفسه متحدثًا رسميًا عنه .. ثانيها : لئن كان بداية نزول القرآن في شهر رمضان ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) البقرة/ 185 ، فإن تلاوته وتدبر معانيه ممتد طول العام ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ) الإسراء/ 106 .. وثالث المحاور هي أن شهر رمضان نقطة نظام – بتعبير المؤتمرات – يحاسب فيه الإنسان نفسه ، ماذا قدّم في العام الفائت ، وماذا أعد لما هو آت – إن كان في العمر بقية ، وهذه الوقفة مع النفس تصب ليس فقط في تلاوة القرآن بحروفه وألفاظه ، بل – في اعتقادي – بمعاملات الإنسان مع الآخر ، واحترامه لعقيدته وفكره ومنهجه مهما كان الخلف والاختلاف معه.
إن جوهر الوعي بالقرآن ، يجد أصوله في جواب السيدة عائشة رضي الله عنها حينما سُئلت عن خلق الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم عن خلقه بجوابها الصادح ( كان خُلُقَه القرآن ) ، وفي هذا الإجابة تؤلَّف المجلدات وتدوَّن المؤلفات حول المعاني والمباني لتلك الجملة الجامعة المانعة ، لم تقل كانت عبادته ، ولا كانت عقيدته ، بل كان خلقه ، ومن تلك الجملة العبقرية ، أكرمني الله تعالى بفكرة تأليف كتاب صدر عن مكتبة الأسرة عام 2000 – كتب تقديمه فضيلة الإمام الأكبر . شيخ الأزهر الشريف - حينها - الدكتور محمد سيد طنطاوي - عن أخلاق سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي أقام الله به دولة ونصح به أمة وكشف به غمة ، اخترتُ له عنوان " مولد أمة " ، أبرزتُ فيه كيف أن رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ، استطاع أن يقيم دولة ( إنسانية ) أرقى من أي أية دولة تقوم على التناحر والعصبية والجبروت ، وصار لكل فرد من الحقوق ما عليه من الواجبات ( بوصفه إنسان ) تجسد في خطاب خالق الكون للبشر جميعهم في قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات / 113 ، وهي آية دستورية تؤطر للوعي العام الذي ينبغي أن يسود في وعي الإنسان بهذا الدين الحنيف ودعوته الخالدة للتعاون والتعارف والتآلف.
إن الوعي بالقرآن في شهر رمضان يدعو لقبول الآخر والتسامح والفطرة الإنسانية العالمية ، و دين يدعو للأخلاق والمثل والقيم العليا للأمم والشعوب.
وبالقانون والأخلاق .. تحيا مصر ،،