طباعة
sada-elarab.com/114471
تحدثنا في الأسبوع المنصرم عن ماضي مدينة البصرة العراقية وكيف كان يضرب بها المثل في الجمال والخضرة وأنهرها المتعددة ونخيلها الباسقات، قبل أن ينال منها الدمار والخراب بفعل الحربين العراقية – الإيرانية وحرب الخليج الثانية، ثم كانت هبة أهل البصرة قبل أسبوعين تقريبا ضد التوغل الإيراني في مدينتهم رافضين تدخلهم في إدارة شؤونهم الداخلية في البصرة أولا والعراق كدولة ثانيا، فتدخل القوي الإقليمية في شؤون الدول بات أمرا صعبا و غير مقبول. وليس بعيدا عن العراق نتحدث اليوم عن سوريا التي بات مصيرها هي الأخري مرهونا بنوايا قوي إقليمية، فلم يعد القرار السوري حكرا علي دمشق فقط أو حتي فصائل المعارضة المتعددة في هذا البلد الذي أصابه الدمار هو الآخر..وعلي سبيل المثال، فمدينة إدلب السورية الإستراتيجية التي تستعد القوات السورية لتحريرها من أخر معاقل المعارضة المسلحة الكبيرة، تموج بالتدخلات الإقليمية والدولية، فمن روسيا للولايات المتحدة، ومن إيران رغم ضعف دورها في المدينة الي تركيا التي ترفض سحب قواتها من إدلب في الوقت الذي تناصر فيه هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) بالإضافة الي تعزيز قواتها داخل المدينة لعرقلة أي تدخل من القوات النظامية السورية لتحريرها من قبضة المعارضة المسلحة والإسلامية.
ليس هذا فقط، فروسيا والولايات المتحدة علي سبيل المثال يستغلان مدينة إدلب لتحقيق مكاسب إستراتيجية لهما بالمنطقة علي حساب سوريا وسكانها ومستقبلها وبقية شعوب الإقليم طبعا، فروسيا التي استعرضت قوتها قبل أيام قليلة في صورة مناورات عسكرية هي الأضخم في تاريخها العسكري بمشاركة 300 ألف مقاتل، و36 ألف مدرعة وألف طائرة وثمانين سفينة بحضور صيني قوي ولافت هو الآخر، بهدف تصدير قوة عسكرية متعاظمة للمنطقة في مواجهة الولايات المتحدة.. وفي هذة الأثناء، أعلنت القوات المسلحة الروسية أن قواتها العاملة فى سوريا رصدت طائرتين أمريكيتين إف-15 تسقطان قنابل فسفورية على منطقة دير الزور، وهو الأمر الذي سارع البنتاجون بنفيه، ليس هذا فقط بل يأتي الرد الأمريكي عاجلا علي إعلان موسكو علي لسان جون بولتون مستشار الأمن القومى الأمريكي، ليكشف عزم بلاده وبريطانيا وفرنسا الرد بقوة أكبر فى حالة شن الحكومة السورية هجوما بالأسلحة الكيماوية على إقليم إدلب.
فالروس يعلنون استخدام القوات الأمريكية قنابل فسفورية في دير الزور، ثم يحذر الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون من استخدام القوات السورية للأسلحة الكيماوية في معركة تحرير إدلب، كفزاعة غربية لمنع دمشق من تحرير أخر معاقل المعارضة المسلحة والإسلامية والتواجد التركي بالمدينة. ووفقا لخبراء عسكريين، من الصعب أن تستخدم القوات الأمريكية القنابل الفسفورية لأن قدرتها التدميرية محدودة للغاية ناهيك عن حظرها دوليا خصوصا ضد الأهداف المدينة، والأمر كذلك بالنسبة للتحذير الأمريكي – الغربي من استخدام القوات السورية للأسلحة الكيماوية، خاصة وأن غاز الكللور يعود تاريخ استخدامه للحرب العالمية الثانية وبالتالي فهو ليس فعالا، ومن الممكن اصابة القوات التي تستخدمه بمفعوله في حال هبوب أي رياح مفاجئة أن يصل الغاز للهدف.
نستنتج من أراء الخبراء العسكريين المحايدين، أن حربا تدور رحاها في الخفاء بين روسيا وأمريكا هدفها حجب حقيقة مايجرى على الأرض السورية، فإعلان روسيا عن رصد قنابل فسفورية أمريكية في دير الزورما هو سوي محاولة لإحباط خطة أمريكية – غربية لدخول القوات الأمريكية في سوريا والبقاء فى منطقة الشرق الأوسط لما هو أبعد من وجودها فى قاعدة العديد القطرية. وقد نسترجع معا هنا الخطة الأصلية لمجموعة "المحافظون الجدد" الذين سيطروا علي إدارة جورج بوش الابن حيث كانت تستهدف غزو ثلاث دول – العراق أولا ثم سوريا لتكون إيران الأخيرة - وهي الخطة التي أحبطها انتخاب الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما الذي أعلن بمجرد توليه منصبه نيته سحب القوات الأمريكية من الخارج ثم أعقب هذا الإعلان بتبنيه اتفاق إيران النووي بمشاركة الدول (5+1)، وهو الاتفاق الذي أعلن ترامب انسحاب بلاده منه.
وإذا كان باراك أوباما قد أفشل خطة "المحافظون الجدد" إلا أن إدارة دونالد ترامب تري أهمية تنفيذ الخطة القديمة، ومن هنا يتوالي اتهام القوات السورية باستخدام الأسلحة الكيماوية كذريعة لتكرار سيناريو غزو العراق في 2003، ليبدأ تنفيذ السيناريو هذه المرة في سوريا للاطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد. ولكن هذا السيناريو في حال تنفيذه قد يجلب علي أمريكا المتاعب لأن القوات الأمريكية ستواجه بحرب شرسة من القواتين الروسية والإيرانية المنتشرة في الأراضي السورية، ومن هنا يمكن تفسير مناورة روسيا العسكرية الإستراتيجية الضخمة بمشاركة القوات الصينية.
المسألة ليست صراعا كبيرا يدور بين روسيا وأمريكا علي الساحة السورية، واعتقد هنا أن علينا توضيح الموقف أكثر ونعيد مضمون البيان الذي نشرته أخيرا القيادة العسكرية الروسية في قاعدة حميميم الجوية قرب مدينة اللاذقية السورية، وجاء فيه أن روسيا ستدعم أي تحرك عتسكري للقوات النظامية السورية ضد القوي الغربية الموجودة علي الأراضي السورية بصورة غير شرعية، وهو ما يعني أمرا مهما خاصة إذا علمنا أن البيان الروسي موجه أولا الي تركيا التي تحتفظ بقوات في إدلب ناهيك عن دعمها عناصر أخري كما ذكر مثل "هيئة تحرير الشام". وما نقصده هو احتمال انهيار الشراكة (الروسية – الإيرانية – التركية) بشأن الموقف السوري، علي خلفية تباعد المواقف بشأن إدلب، فروسيا وإيران يؤيدان هجوم القوات النظامية السورية لتحريرها وسط معارضة شديدة من تركيا التي تنوي الدفع بحوالي 4 ألاف جندي الي إدلب استعدادا لمواجهة أي هجوم سوري محتمل.
والسؤال الآن :" هل يقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالتوجه الروسي؟ وما أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة طهران الأخيرة أن قوات بشار الأسد يجب ان تسيطر علي حدود سوريا كاملة علي غرار ما تم في درعا جنوبا بدعم القوات الروسية أيضا..من المؤكد أن بوتين يدرك جيدا مدي صعوبة موقف أردوغان حيال الولايات المتحدة والغرب حيث بات محاصرا بالمشكلات السياسية الدولية والاقتصادية الداخلية، وبالتالي لن يستطيع وهو في مثل هذه الحالة المأساوية مواجهة الطلبات الروسية ببقاء قوات تركية في إدلب ودعم جماعات المعارضة هناك خاصة وأن طريق أنقرة – واشنطن بات مغلقا تماما في ظل الأزمة المستحكمة بين أردوغان وترامب بسبب القس الأمريكي المعتقل في تركيا ورفضها اطلاق سراحه وفقا لطلب ترامب.
وتتزامن كل هذه التطورات مع مواصلة الجيش السوري حشد قواته بجنوب مدينة إدلب لتحريرها، كما تعهد وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، بتصفية الاحتلال التركي لبلاده، مما ينذر برفض دمشق استمرار الوجود العسكري التركي هناك، الأمر الذي ينذر بنشوب معارك سياسية وعسكرية قريبة لتصفية هذا الوجود، مقابل قيام الجيش التركي بتعزيز قواته بشمالها حيث أنشأت 12 نقطة مراقبة تركية بها، كما استبقت أي هجوم عسكري سوري علي المدينة بتشكيل الجبهة الوطنية للتحرير (40 ألف مقاتل) في يوليو الماضي وتضم أحد عشر من فصائل المعارضة المسلحة بجانب المقاتلين الأجانب بإدلب وهم عبارة عن فصائل قوقازية والإيجور الصينيين وعناصر أوزبكستانية وقيرغيزستانية. كل هذه الحشود تؤكد قرب بدء العمليات العسكرية، مما قد ينذر باندلاع صراع إقليمي ودولي في سوريا يكون مقره إدلب التي تنبع أهميتها من موقعها الإستراتيجي. فهي حلقة وصل بين عدد من مدن شمال وغرب سوريا، وتمثل 4% من مساحة سوريا، وتقع بين محافظتي طرطوس واللاذقية حيث توجد القاعدتان العسكريتان الروسيتان والقاعدة الشعبية "للأسد" غربي سوريا. كما ترتبط إدلب بحلب من الشرق، ثاني أكبر مدينة سورية وحماة من الجنوب، مما يجعلها في مثلث محاذي لثلاث محافظات حلب - حماة – اللاذقية.
إذن التشابكات الدولية هي عنوان الموقف في الصراع علي سوريا حاليا، وبات الموقف صعبا للغاية قبيل عملية تحرير إدلب حيث الصراع الإقليمي والدولي علي أشده، فسوريا بدعم روسي قوي باتت علي بعد خطوة من شن عملية تحرير المدينة، وتركيا لا تزال تماطل للحفاظ علي وجودها في مناطق أقصي شمال سوريا وهي ( الباب – جرابلس –عفرين). وربما يتخذ الرئيس الأمريكي خطوة أكثر خطورة بشن عملية عسكرية في سوريا خاصة في ظل تنامي مشكلاته الداخلية بهدف التغطية عليها. في حين تستعد روسيا لحصد كعكة الوقوف بجانب الأسد منذ بدء الصراع في عام 2011 حتي استعاد معظم أراضيه لتبقي إدلب المدينة الأكبر التي لا تزال خارج نفوذه، بينما تلعب إيران هي الأخري دورها التي رسمته لها بالمنطقة لتظل سوريا والعراق واليمن ولبنان ملاعب خارجية لصراعاتها الدولية خاصة مع أمريكا.
وكنتيجة طبيعية لمثل هذه التشابكات الدولية، أن تماطل الولايات المتحدة وتحالفها الغربي في عملية إنهاء الحرب في سوريا وإعادة الأمور الي ما قبل 2011 كي تتمكن الدولة السورية من بسط سيادتها وسيطرتها على كامل الأراضي التي استولت عليها جماعات المعارضة المسلحة والإسلامية المتعددة، خاصة في ظل أن القوات السورية باتت قاب قوسين أو أدنى من استعادة كامل التراب السوري. ولكن كافة الأطراف الدولية والإقليمية تصر علي تأجيل استعادة سوريا لمقدراتها السياسية والجغرافية، وتعمل كل القوي تقريبا علي حماية بعض الأطراف المحلية و الإرهابيين من عملائهم خاصة فى إدلب حاليا.
احمد المرشد
كاتب ومحلل سياسي بحريني