طباعة
sada-elarab.com/83559
سبحان الله، وبحمده ولا راد لقضائه فُجعنا يوم الثلاثاء 6 فبراير 2018م بفقد عزيز فارقنا بهدوئه المعهود تاركاً أبلغ الأثر في نفس المقربين إليه من أهل بيته وأولاده وأحفاده وأقربائه وخلصائه وأصدقائه، ليقول لنا بو خالد محمد عبدالقيوم اللقماني «وداعاً واستوصوا بالأولاد والأحفاد خيراً»، فقد كان الزوج والأب والجد والأخ والنسيب والصديق الذي يحفظ الود ويصون العشرة ويحب للآخرين الخير ويتمنى لهم السعادة، ويبذل ما يستطيع ليجعل البسمة تنير طريقهم ويتفاءلون بالخير ويتغلبون على مشاق الحياة بالصبر والجلد والعمل الدؤوب.
المرحوم محمد عبدالقيوم من جيل أولئك الرجال الذين اقتحموا ميدان العمل الخاص منذ نعومة أظفاره وفي تخصص لم تعهده البلاد واقتصادها، حيث بدأت بواكير العمل المصرفي في البحرين عام 1929م - 1944م لتشهد مصارف بريطانية المنشأ وتفتح فروعاً لها في البحرين ويقبل عليها أبناء البحرين، أبناء وأحفاد أولئك الرجال الذين اقتحموا المجهول من أجل لقمة العيش فأذهلوا الأجانب بحبهم لعملهم وتفانيهم في أداء الواجب ورغبتهم في تعلم المزيد في مهنة جديدة ومتحدية، وكان المغفور له بو خالد لا يمل من الحديث عن أولئك الرجال الذين عمل معهم وزاملهم في البنك البريطاني في أسمائه المتغيرة بين فترة وأخرى منهم من اختاره الله إلى جواره ومنهم من لا يزال يعطي لبلاده بشخصه أو بما نقل إليه من خبرة متمثلة في أولاده وأحفاده مع حفظ الألقاب والمناصب والأدوار الاجتماعية والحياتية كعبد العزيز سعد الشملان، وأحمد الجابر، ومحمد غريب، وعلي إبراهيم الجودر، وراشد الظاعن، وإبراهيم عبدالقيوم وعلي خالد هجرس ومحمد مبارك القحطاني، ويوسف أحمدي، وخليفة سيد إبراهيم، وعبدالرحمن العمران، ومحمود حسين نعمة، وإسماعيل زمان، ومحمود عبدالرحمن وأحمد الشروقي، ويوسف المحمود، وعبدالله محمد باقر وإبراهيم بوجيري، وخليفة هجرس، وعلي رشدان، وعيسى رشدان وحسن بن علي وعلي بهلوان وجاسم علي باقر وصالح الكواري وعبدالرحمن بوعلي ويوسف بوشقر وآخرين أجيال حملت الراية وسلمتها لمن أتى بعدهم كل في موقعه والمهنة التي أسندت إليه ليثبتوا للآخرين بأن أبناء البلاد هم الأقدر على النجاح والتفوق، ويضرب البحرينيون المثال والقدوة في البذل والعطاء لخدمة بلادهم ومواطنيهم، وهم كانوا المثال والنموذج لمواطنين بحرينيين خدموا في مصارف أخرى في البحرين، وفي مصارف لها فروع مماثلة في المنطقة الشرقية، كالخُبر والدمام بالمملكة العربية السعودية.
سجل من العطاء الوطني لأبناء البلاد، خدموا بلادهم البحرين وخدموا أشقاءهم في دول الخليج العربي حتى باتت اليوم مملكة البحرين المركز المالي المتقدم في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، ويشار إليها عالمياً كأحد المراكز المالية المهمة.
واجبنا أن نذكر هؤلاء لأن سجل تاريخهم هو من سجل إنجاز هذا الوطن العزيز وأبنائه. المرحوم محمد عبدالقيوم اللقماني بو خالد من جيل أولئك المثقفين من أبناء البلاد الذين لم تفارق الكتب حياتهم، وكانوا يتهادون الكتب فيما بينهم، ويتبادلون المعلومات ويناقشون في القضايا التي تُثار فيها، ويحرصون على أن تكون مكتبة البيت عامرة بكتب التراث وبالكتب التي تعالج القضايا المعاصرة، وكانت مكتبات البحرين عامرة بروادها من هذا الجيل المتعطش للمعرفة، وكان الراحل أحد هؤلاء الذين يحرصون أيضاً على زيارة معارض الكتب المتعددة ولا يكتفي بزيارة واحدة، فتجده طوال أيام المعرض يعكف على التنقل من دار نشر إلى دار نشر أخرى عله يعثر على ضالته من المعرفة التي ينشدها وكان مغرماً بكل جديد، ويفرح كالطفل بأن تهدي إليه كتاباً حتى وإن كان عنده نسخة منه فهو يشعر بأن نسخة من أي كتاب، خصوصاً إذا كان قيماً، لا تكفي، والمرحوم إذا وجد مقالاً في جريدة وأعجبه يقوم بتصويره ويهدي نسخاً منه إلى أصدقائه ويحتفظ به في ملفات وكأنه من واجبه أن ينقل هذه الفائدة لمن يقدرها ويحرص عليها طال الزمان أم قصر، وكنت سعيداً عندما أزوره، فيناقشني في المقالات التي أنشرها في جريدة الأيام وبعد كل فترة يفاجئني بهدية من عنده عبارة عن كل مقالاتي التي نشرت طوال تلك الفترة في ملزمة أنيقة حاثني على سرعة طباعة كتاب أو كتب تضم جميع مقالاتي التي كتبتها منذ العام 1972م وأشعر بأن من واجبي أن أحقق له هذه الأمنية وإن كان قد رحل لكن وصيته بإذن الله باقية، فهو كان يؤمن بالحكمة القائلة: «القراءة صيد، والكتابة قيد»، ولابد أن تقيد صيدك بالكتابة والتسجيل لتبقى متحدية ضعف الذاكرة البشرية.
محمد عبدالقيوم حتى آخر لحظة في حياته كان يرحمه الله متابعاً لكل ما ينشر في جرائدنا المحلية رغم أنه لا يتعامل مع الأجهزة الحديثة وعالم الكمبيوتر أو وسائل التواصل الإجتماعي، لكنه كان يتحدى الوقت في الاطلاع والمعرفة ويتحين فرصة إقامة معارض للكتب أو حفلات تدشين كتب؛ لأنه يؤمن بأن أحداً من أهله أو معارفه أو أصدقائه لابد أن يحجز له نسخة يضمها إلى مكتبته العامرة، وبعد أن أمتلأت إحدى غرف البيت وجد في الغرف الأخرى مكتبة أودعها أعز ما يملك من كتب ووثائق ومخطوطات وأوصى ابنه «خالد» وابنتيه «بسمة» و«سهير» وزوج ابنته «عبدالرحمن» بالمحافظة على هذه الذخيرة وكنوز المعرفة للاستفادة منها والرجوع إليها عندما يرغبون في الاطلاع والاستزادة من المعرفة... والمرء منا يحار كيف لنا أن نستفيد من هذه الكنوز التي يحتفظ بها الرعيل الأول من عشاق المعرفة والعلم والاطلاع، فهو يرحمه الله يحتفظ مثلاً بأول إصدار لمجلة العربي التي كانت تصدر ولا تزال بدولة الكويت ولديه منها مجلدات، كذلك يحتفظ بنسخ من المصور، وآخر ساعة ومجلة الهلال وروز اليوسف وصباح الخير التي تصدر في جمهورية مصر العربية، وكان مثقفو تلك الحقبة يحرصون على حجز نسخهم من المكتبة الوطنية لعائلة الوجيه المرحوم إبراهيم عبيد بالمنامة.
إن التاريخ الثقافي للبحرين تاريخ ناصع تجلت فيه عطاءات البحرينيين ورسموا طريقاً لمن أتى بعدهم تأثروا وأثروا وكان ولا يزال انتماؤهم لوطنهم وعروبتهم وأمتهم لا يساومهم عليها أي دخيل أو حاقد يبطن في ذاته الشر.
بوخالد معذرة إن قصرت في حقك، فأنت كنت ولا زالت سيرتك مثالاً لأبناء البحرين الذين تكيفوا مع تطورات اقتصاد بلادهم، فعندما تقاعد الراحل محمد عبدالقيوم اللقماني من البنك البريطاني وبدأت البحرين في تنوع اقتصادها عملت بنظام الأسهم والسندات للشركات والبنوك والمؤسسات الخاصة وكان هو وكوكبة من الخبرات المصرفية قد اقتحموا هذا المجال وساعدوا في وعي الناس بأهمية الأسهم وأخدوا بيدهم، وكانوا الحريصين على فائدة المؤسسات والمساهمين على حد سواء إلى أن بدأت بورصة البحرين في أسلوبها الحديث والمتطور، ولم يبخل المرحوم وزملاؤه بخبرتهم وتجربتهم ورؤيتهم الثاقبة في إسداء النصيحة بغية تطوير هذا النهج في اقتصادنا الوطني.
بو خالد لقد رحلت عن دنيانا ولكننا نجد في ذريتك الأمل والرجاء، فقد غرست فيهم حب هذا الوطن والتفاني في أداء الواجب الوطني وعلمتهم كيف يبني الإنسان نفسه، فأنت العصامي الذي أدرك مبكراً قيمة العلم والمعرفة والثقافة والاطلاع، ولعل الجيل الذي عشتم معه كان أيضاً هو يؤمن بالحافز وأهمية التشجيع مع الإيمان برسالته الوطنية...
كنت أجد فيك أبا خالد تشجعيك وحنوّك على أحفادك وغيرتك عليهم وحرصك على أن تلتقي بهم يومياً، فيصل، ومحمد، وجواهر، وعبدالرحمن، وهم في عمرهم الطري سيفتقدونك ويذكرون كيف كنت تلاعبهم وتقدم لهم الهدايا وتحتفظ بصورهم وتطورهم العمري، سنشتاق إليك أبا خالد أيام الجمع والأعياد لتقدم لنا كيكة التمر، وتصر وأنت الوالد على أن تقدم لنا بنفسك القهوة والشاي، وتسمعنا الحكايات والنوادر وآخر ما كتبت الأقلام وقاله الشعراء.
رحمك الله رحمة واسعة وإلى جنات الخلد ورضوان النعيم، وعزاؤنا لأهل بيتك وأولادك وأحفادك وكل الأهل والأصدقاء والمعارف الذين قدموا واجب العزاء في فقدك يا أعز الناس، ومن ترك أجمل الذكريات.
وعلى الخير والمحبة نلتقي