في حياتنا اليومية ممارسات أو مفاهيم بسيطة في شكلها ومضمونها، لكنها بعيدة في أهدافها وغاياتها ومراميها إن تأملنا فيها مليا وأسقطناها على كثير من أمور حياتنا، وفي لغتنا العربية مفاهيم لغوية كالإستعارة والكناية، بالإضافة إلى ثقافتنا المجتمعية كالأمثال والحكم والأقوال المأثورة.
عبارة «خل الشاي يترسى» في لهجتنا البحرينية تقابلها في اللهجة العراقية «خدري الشاي خدري» وبالتأكيد في لهجاتنا العربية المختلفة توجد مثل هذه العبارة بالنسبة لإتاحة المجال والفرصة للشاي المعد آنيا ليأخذ وقته في الإكتمال والنضج ويأتي بالنتائج المبتغاة منه.
فأغنية المطربة العراقية سليمة باشا مراد 1905م-1974م وهي مغنية عراقية تعد من قمم الغناء العراقي وكتب الأغنية الشاعر العراقي عبدالكريم العلاف «خدري الجاي خدري» تعتبر من أغاني العراق التراثية والتي تقول كلماتها:
خدري الجاي خدري
عيوني المن أخدره بويه
المن أخدره وشمالج يا بعد
الروح دومج مجدرة
قالوا لي خدري الجاي وشلون
أخدره وشلون أصفي الماي
وشلون أفوره.
كما غنتها مع المجموعة المطربة العراقية إنطوانيت إسكندر وغناها المطرب العراقي بتصرف ناظم شكر.
عموما لو أسقطنا هذه العبارات واستعرناها لأفكار وآراء نطلقها في زماننا فنصيب ونخطئ، وقد تكون عواقبها وخيمة على الأفراد والجماعات. ولاشك أن التأني أو ما نسميه في لهجتنا المحلية «بالركادة» مطلوب الاقتداء به. كثيرة هي الأفكار التي يتناولها المصلحون، وكثيرة هي الأقوال التي يتلفظ بها المثقفون، وتمضي كغيرها أحيانا نعبأ بها وفي كثير من الأحيان لا نلقي بالا لها رغم وجهاتها ومردودها الطيب الذي يعود علينا بالنفع والفائدة، وقد تمضي مثل هذه الأقوال دون الإستفادة منها ودراستها وتعميق مفهومها وأخذها إيجابيا.
نحن نعلم إن الكثير من الأفعال الإيجابية إنما نبعت من أقوال وأفكار أناس خبروا الحياة وصقلتهم التجارب فوجدوا فيما قالوه أو أشاروا عليه الفائدة للأفراد والجماعات، وهناك اليوم في عرف السياسة وعلم الإدارة ما يسمى «بالعصف الفكري» ونعني به مجموعة من المفكرين والباحثين والدارسين يلتقون في ندوة أو خلوة فكرية فيتبادلون الأفكار في قضية تقلقهم، ويتشاورون في كيفية الخروج منها أو إيجاد حلول لها وليس حلا واحدا ووحيدا، وإنما تزاوج الأفكار والرؤى تفيد في حل الكثير من المعضلات والغرب يأخذ بأفكار هؤلاء الذين اجتمعوا لدراسة ظاهرة ما، ويحاولون تطبيق ما يناسب منها، ولا مانع لديهم من التجربة والخطأ، فالمفهوم أن التطبيق العملي ليس بالضرورة يتوافق مع الأفكار المطروحة، ولكننا في أدبياتنا نقول: «لكل مجتهد نصيب»، والبعض طبعا قد يقول: «ليس كل مجتهد مصيب»..
لقد تعلمنا أن رأي الإثنين أفضل من رأي الفرد وكلما زاد العدد بالحد المعقول كلما كان في ذلك إثراء وإغناء للأفكار شريطة أن يكون الإختلاف ليس على المضمون، وإنما هو إثراء وإغناء لهذا المضمون بما يعود على الجميع بالخير.
كان الناس في مجتمعنا البسيط يتداولون شؤون حياتهم في المجالس، حيث يكون عندهم صفاء الذهن بعد يوم شاق من البحث عن لقمة العيش، وكانوا في البداية يستمعون إلى كبير القوم، وقد يكون هو صاحب المجلس، ومن ثم يأذن لهم بالكلام لمن يريد أن يبدي رأيا أو يطرح فكرة، وكانوا بسليقتهم وفطرتهم يتداولون شأن حياتهم ومعيشتهم، ولذلك فقد حرصوا على إحترام الأقوال والأفكار ويقدرونها، فقد كانوا يرددون عبارة «إن المجالس مدارس»، ويقولون أيضا إن «ما يقال في المجالس يعد من أسرار المجلس ولا ينبغي أن تخرج عن النطاق إلا ما يخدم المجتمع ويقوي أواصره ويزيد من لحمته، ويخلق الألفة والمحبة بين أفراده».
لقد أتيحت لي فرصة إغشاء هذه المجالس على الصغر، وكنت استمع إلى هؤلاء الرجال وهم يتحدثون عن الأهوال التي عاشوها بحثا عن لقمة العيش، وكيف كانوا يتعاونون في التغلب على الصعاب، ويذكرون مواقف وبطولات رجال خبروا البحر، وكانوا على قدر المسؤولية المنوطة بهم إما نواخذة يقودون السفينة إلى بر الأمان أو بحارة نذروا أنفسهم لخدمة زملائهم وسعوا بكل ما أوتوا من قوة وخبرة في وصول السفينة إلى مراسي الأمان.
وحتى عندما توقفت سفن الغوص عن الإبحار بحثا عن محار اللؤلؤ، وتغير الإقتصاد من مهنة الغوص والسفر والقطاعة إلى العمل في شركة النفط بابكو عندما تدفق الزيت الخام بدءا من عام 1932م فعمل الكثير منهم في مهنة جديدة عليهم، إستخراج وتسويق النفط ذكروا لنا مواقف رجال من بلادي كيف تعاملوا مع هذه المهنة الجديدة، وطنوا النفس على معرفة كل صغيرة وكبيرة تتعلق بهذه المهنة، واجهوا صعوبات وعقبات ولكنهم أدركوا عاجلا أم آجلا أنهم سيكونون المكلفين بحماية هذه المهنة والسهر عليها وتملكها بما يعود على بلادهم ومواطنيهم بالخير، فتغلبوا على أعقد المشكلات بعد تعلمهم وخبرتهم وتجربتهم مما أدهش الآخرين، وظنوا يوما أن هؤلاء البحارة لا يعرفون إلا مهنتهم القديمة، وإذا بهم بتعاونهم ورغبتهم في خدمة بلادهم استطاعوا أن يقدموا أروع الأمثلة في البذل والعطاء وحبهم لما يقومون به من أعمال.
كانوا يتشاورون ويتبادلون الرأي وينقلون الخبرة فيما بينهم، فأصبحوا ولله الحمد أصحاب خبرة وتجربة واسعة واستطاعوا أن ينقلوا خبرتهم وتجربتهم إلى أشقائهم وجيرانهم في الخليج العربي وضربوا أروع الأمثلة للمواطن الصالح الذي يعمل بكل إخلاص وتفان وينشد الخير لوطنه ومواطنيه.
كنا نسمع منهم كل ذلك في أوقات مختلفة وفي ظروف متباينة، شاعرين بالفخر والزهو والإعتزاز، وراغبين في أن ينقلوا خبرتهم وإصرارهم إلى أبنائهم وأحفادهم ولا يملون ولا يكلون في ترديد هذه الأقوال والأفعال، فقد شعروا بمسؤوليتهم في أن ينقلوا ذلك إلى أجيال تأتي بعدهم.
إن المتمعن في تجارب الأجداد والآباء يدرك مقدار الجهد والوقت والأفكار التي تداولوها، والخبرات التي لم يضنوا بها وكانوا ينظرون إلى المستقبل بالأمل والرجاء بعفوية وطيب خاطر وصفاء نية وقلوب مجتمعة على الخير والبناء والتعمير يدفعهم الحب للوطن وأهله بهدوء وروية وكانوا لا يتوانون عن تكرار عبارة «خل الشاي يترسى».
وعلى الخير والمحبة نلتقي