طباعة
sada-elarab.com/757074
لم يكن ما حدث يوم الجمعة الماضي في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض مجرد "شجار" أو "مناقشة حادة" على مشهد من وسائل الإعلام العالمية.
كذلك لم يكن ذلك مجرد "مؤامرة" حاكها ترامب وفانس من أجل الإيقاع بالممثل الكوميدي المسكين والرئيس الأوكراني المنتهية شرعيته فلاديمير زيلينسكي، وإذلاله وفضح خضوعه وانسحاقه بالكامل للإرادة الغربية. ولم يكن زيلينسكي "بطلاً قومياً"، أظهر كبرياءه وإرادته وشموخ أمته على الرغم من الضربات المهينة التي وجهها إليه كل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس.
بل كانت تلك لحظة تاريخية فاصلة بين شرق المحيط الأطلسي وغربه، أعلن فيها ترامب بكل وضوح عن تنفيذ خططه المرسومة بعناية ودقة لجعل "أمريكا عظيمة مرة أخرى"، الولايات المتحدة، في هذا اللقاء، وعلى لسان ترامب، تعلنها صراحة أنها بصدد الخروج لا من المستنقع الأوكراني، بل من المستنقع الأوروبي بأكمله.
وبعد زيارتي كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني "السير" كير ستارمر، الذي جاء بدعوة من "جلالة" الملك تشارلز الثالث ليرضي غرور ترامب، وبعد أن مهدت أوروبا لزيارة طفلها المدلل و"زعيمها المرتقب" فلاديمير زيلينسكي إلى البيت الأبيض للتوقيع على اتفاقية المعادن النادرة، وربما الحصول على ما لم يتمكن ماكرون وستارمر من الحصول عليه (بقدراته التمثيلية ومهاراته الاجتماعية التي تعود استعراضها على مدار السنوات الثلاث الماضية أمام برلمانات ومسؤولي أوروبا والولايات المتحدة)، بعد كل ذلك، يأتي زيلينسكي لينال قسطا وافرا من الإهانة والتوبيخ في عقر دار الشريك "الاستراتيجي" له في حربه مع روسيا.
لقد اكتشف زيلينسكي، ويا للعجب والدهشة، أن الولايات المتحدة، بل والغرب، لا يتعامل معه معاملة الند، ولا يجلسه على الطاولة كما تعوّدت إدارة بايدن أن تفعل، بل يخصص له مقعدا مخصصا للتابعين والعبيد الذين تستخدمهم الولايات المتحدة كقفازات لتحقيق أغراضها والدفاع عن مصالحها الاستراتيجية.
كانت تلك الحقيقة مزعجة وصادمة لزيلينسكي، حتى أنه انتفض وزبد وعلا صوته وقالها بصوت جهوري لنائب الرئيس الأمريكي فانس: "عن أي دبلوماسية تتحدث؟"، وبهذه الصيغة تحديدا: What diplomacy are you talking about?، فتلقى بعدها اللكمات والضربات والطعنات، وعاد أدراجه إلى أوروبا/لندن ليستنجد بأصدقائه وزملائه ورفقائه من العبيد الأوروبيين، في محاولة بائسة يائسة لبث الحماس والنخوة والشجاعة في الجسد الأوروبي الميت، فاجتمع في لندن بعلية القوم، كبار القارة وزعمائها، الذين قالوا له "بالعربي الفصيح" إنهم ربما يدعمونه، ويقفون إلى جواره، ويمدّوه بالمال والسلاح والذخيرة، وربما حتى الجنود، إلا أن كل هذا قد يصبح بلا فائدة ولا قيمة إذا قررت الولايات المتحدة لا قطع المساعدات، بل وقف تبادل المعلومات الاستخبارية وبيانات التكنولوجيا من أقمار الناتو العسكرية. قالوا له، فيما أظن وهم محقون، إن كل ما يملك، وما تملك أوروبا سيكون بلا معنى إذا ما قررت الولايات المتحدة أن تضغط على زر Stop للدعم الاستخباراتي والتكنولوجي. كل هذه الطائرات الـ "إف-16" و"الهيمارس" و"الستورم شادو" وحتى "التاوروس" التي ربما يقدم المستشار الألماني المقبل فريدريش ميرتس على منحها لزيلينسكي، كل هذه لن تكون سوى لعب أطفال، دون الدعم التكنولوجي والاستخباراتي من الولايات المتحدة.
هو ذات الأمر بحذافيره حينما تنبري حناجر المدافعين عن أوكرانيا بقولهم إن أوكرانيا "تنازلت عن أسلحتها النووية في مذكرة بودابست مقابل الضمانات الأمنية".. يقولون "أسلحتها"، ويغفلون أنها كانت الأسلحة النووية السوفيتية التي كانت "في حوزة" أوكرانيا، لا التي "تمتلكها" أوكرانيا. وكل هذه الأسلحة كانت مصنعة ومصممة في روسيا، وكل أكواد التشفير والتحكم بها كانت في موسكو، لا في كييف.
من هذا المنطلق يمكننا فهم ما ورد في خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الأمة في الكونغرس الأمريكي عندما يقول إنه "تلقى إشارات قوية من روسيا بأنها مستعدة للسلام". إنه المركز يتعامل مع المركز، القوة العظمى تتعامل مع نظريتها العظمى، بينما يجتمع الصبيان والفتيات في أوروبا، وسيجتمعون نهاية هذا الأسبوع أيضا، من أجل التفكير في مستقبل الحرب لا مستقبل السلام.
إنها سردية روسيا التي طرحتها منذ بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، هي الحرب إذن بين روسيا و"الناتو" الذي يلبس قفازا يسمى أوكرانيا/زيلينسكي/نظام كييف النازي، أيا ما كان المسمى، وما يسعى الرئيس ترامب الآن لتحقيقه هو محاولة إيجاد مخرج يحفظ لخروج بعض القادة الأوروبيين وإدارة بايدن (بوصفها ممثلا رسميا عن الولايات المتحدة مهما كانت الخلافات) ماء الوجه، وليخرج ببلاده من المستنقع الأوروبي، الذي تورطت فيه الإدارات الأمريكية السابقة بتمدد "الناتو" شرقا على الرغم من كل الوعود والاتفاقيات مع القيادات الروسية عقب تفكك الاتحاد السوفيتي.
وقد شرحت ذلك بشكل مفصل في كتابي الأخير، الصادر عام 2024، بعنوان "من ضدنا" عن أسباب أجواء التوتر بين روسيا والغرب، والتي أكدت فيها على أن ما تخوضه روسيا ليس حربا وإنما عملية عسكرية روسية خاصة تخوضها روسيا ضد الحرب التي يشنها "الناتو" ضدها، والتي بدأت منذ ثلاثين عاما كحرب هجينة على كل الصعد والمستويات، مرورا بالحرب الساخنة التي بدأت بانقلاب أوكرانيا عام 2014، ثم بعمليتين عسكريتين خاضهما نظام كييف ضد الجمهوريات المستقلة من جانب واحد في دونباس تحت عنوان "مكافحة الإرهاب"، وانتهاء بالشروع في إطلاق العملية العسكرية الأوكرانية الثالثة، وحشد القوات على حدود دونباس، تمهيدا لاجتياحه، وجعل أوكرانيا معقلا لحلف "الناتو" ورأس حربة للحلف ضد روسيا على بعد 500 كيلومتر فقط من الكرملين.
عاد زيلينسكي صاغرا، وكتب "رسالة التوبة" موجها حديثه إلى "القيادة القوية للرئيس ترامب"، وأعلن عن استعداده التوقيع على اتفاقية المعادن النادرة، والجلوس إلى طاولة المفاوضات. روسيا، وحتى يومنا هذا، لم تعلن الحرب يوما ضد أوكرانيا، وإنما تقوم بالعملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، ولن تتراجع أبدا عن تحقيق جميع أهداف العملية دفاعا عن الأمن القومي الروسي، ووحدة أراضي وضمان سيادة واستقلال وأمن وسلامة البلاد.
اليوم، أصبح من الواضح أن العملية العسكرية تحقق أهدافها على الأرض، وهو ما اعترف به ترامب ونائبه، برغم كل الدعاية الغربية المغرضة التي كانت تقودها إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي، وأصبحت الهزيمة بشهادة جميع الخبراء العسكريين والاستراتيجيين واضحة وحتمية، وأصبح من الضروري إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى من أوكرانيا.
لكن ترامب، بالتوازي، يركز جهوده في المقام الأول على إنقاذ أوروبا من الدمار الحتمي إذا ما استمرت المواجهة، وإذا ما قام "حزب الحرب" ممثلا في بريطانيا وفرنسا بوضع قوات "الناتو" على الأرض في أوكرانيا، تحت مسمى "قوات حفظ السلام" على سبيل المثال، أو تحت أي مسمى آخر، وهو ما أعلنت القيادة الروسية أنه أمر مرفوض تماما شكلا وموضوعا، وهو ما سيمثل شرارة أكيدة لاستهداف روسيا هذه القوات والقضاء عليها بكل حسم وقوة.
إن مدخل التفاوض بين روسيا والولايات المتحدة هو المدخل الوحيد السليم والعاقل، ومبادرة ترامب لتسوية العلاقات، واستعادة القنوات الدبلوماسية، وبدء الحوار هو التفاوض الحقيقي والبناء الذي يتوجه رأسا إلى جوهر المشكلة، لا إلى أفرعها، إلى المرض لا العرض، وإلى أسباب التوتر بين روسيا والغرب، وروسيا و"الناتو"، وروسيا والاتحاد الأوروبي، وما أن تتزن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، حتى يبدأ الحوار الحقيقي سعيا لبناء هيكل أمني أوروبي يمثل ضمانا لأمن الجميع ليس على حساب أمن أي من الأطراف، بما في ذلك أوكرانيا.
أما رغبة ترامب في الحصول على المعادن النادرة من أوكرانيا، فهو شأن ثنائي بين الولايات المتحدة وربيبتها أوكرانيا، إلا أنني كنت لأنصح بأن يتريث ترامب ليعقد تلك الصفقة مع إدارة أوكرانية جديدة منتخبة، ذلك أن زيلينسكي وفريقه فقدوا شرعيتهم في مايو 2024، ويتحججون بـ "الحرب" لعدم إجراء انتخابات، أعتقد أنها ستسفر حتما عن رحيلهم جميعاً وعلى رأسهم فلاديمير زيلينسكي.
وختاما، وبينما أنهي السطور الأخيرة في مقالي هذا، وردت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بأن الصراع في أوكرانيا ليس سوى "حرب بالوكالة بين قوتين نوويتين هما روسيا والولايات المتحدة الأمريكية"، في تأكيد دامغ على محتوى المقال، وجوهر ما أكتبه وأومن به تماما خلال السنوات الماضية.