منوعات
مشروع ترميم وحفظ بيت يكن في القاهرة التاريخية.. من بيت مهجور ومرعى للمواشي إلى مركز فنون وتنمية مجتمعية
مشروع ترميم وحفظ بيت يكن في مصر هو أحد المشاريع المتميزة التي فازت بجائزة ايكروم- الشارقة للممارسات الجيدة في حفظ وحماية التراث الثقافي في المنطقة العربية في دورتها لعام 2019-2020.
وتعتبر هذه الجائزة التي أطلقها مركز ايكروم الاقليمي في الشارقة، تحت رعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، من أهم الجوائز التي تعنى بالتراث الثقافي في المنطقة العربية، وهي دون شك الأولى من نوعها في المنطقة.
تعكس الجائزة التزام مركز ايكروم الإقليمي
في الشارقة بدعم حماية التراث الثقافي المنقول وغير المنقول في المنطقة العربية؛ وتعزيز
الممارسات الجيدة في مجال حفظ وإدارة التراث الثقافي؛ وتسهيل التبادل الدولي للمعرفة
والخبرة في هذا المجال وإدارته؛ وتعزيز الوعي العام وتقدير التراث الثقافي. كما تهدف
الجائزة، التي تمنح كل عامين، إلى التعريف بالمشاريع المتميزة والاستثنائية التي تعنى
بحماية وصون التراث الثقافي في المنطقة العربية والاحتفاء بها، وتكريم الأشخاص أو الجهات
التي تقف خلف نجاحها.
وبينما تستعد الجائزة لإغلاق باب الترشيح
للدورة الرابعة منها، والذي تم تمديده في وقت سابق حتى الأول من الشهر القادم بتاريخ
1 يونيو 2024، أي بعد بضعة أيام فقط، نستغل هذه الفرصة لنستعرض مشروع ترميم وحفظ بيت
يكن التاريخي في القاهرة والذي "كان من بين المشاريع الملفتة التي حصلت على الجائزة
في السابق"، كما تقول المهندسة شيرين ساحوري، مديرة مشاريع التنمية والتطوير في
مركز ايكروم الاقليمي في الشارقة، في تصريح لها بهذه المناسبة.
وتضيف السيدة شيرين قائلة "من خلال
عرض المبادرات الجيدة وتكريمها، مثل مشروع بيت يكن في القاهرة، تلهم جائزة ايكروم الشارقة
للممارسات الجيدة في حفظ وحماية التراث الثقافي في المنطقة العربية الجهات والمؤسسات
المعنية بالحفاظ على الإرث الثقافي لتطبيق مقاربات مشابهة في بلدانهم، وتحفز الآخرين
على اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تستجيب للاحتياجات الآنية والمستقبلية، مما يخلق
تأثيرًا مضاعفًا يعزز شبكة الأفراد والمنظمات المشاركة في الحفاظ على التراث الثقافي
في المنطقة العربية."
وحول الدورة الحالية تؤكد السيدة شيرين
ساحوري على أهمية مشاركة الخبرات والمشاريع المصرية، إلى جانب أشقائهم من الدول العربية
في المسابقة، والمنافسة على الجائزة. وتضيف "تتميز التجربة المصرية بحفظ وحماية
التراث الثقافي بغناها وقدمها، فمصر هي من أوائل الدول العربية التي طبقت مقاربات عالمية
على أعلى مستوى من الاتقان والتميز في حفظ المواقع التراثية والتاريخية. وما مشروع
بيت يكن إلا نموذج ومثال من بين العشرات وربما المئات من الأمثلة المشابهة التي يشهد
لها وتتميز بحرفيتها واتقانها وتفردها في المنطقة".
وتضيف "من هذا المنطلق، وبينما نقترب
من الموعد النهائي لاستلام الترشيحات للدورة الرابعة والحالية من جائزة ايكروم الشارقة
للممارسات الجيدة، أود أن أنتهز هذه الفرصة لأدعو جميع المؤسسات والجهات والأفراد العاملين
في مجال صون وحماية التراث الثقافي في مصر، وكافة الدول العربية، للمسارعة بالمشاركة
بالجائزة واستكمال جميع المعلومات والوثائق المطلوبة نظراً لأهمية هذه المشاركة، وأهمية
الحصول على هذه الجائزة للتعريف بإنجازاتهم ومشاريعهم الاستثنائية في المنطقة".
من مرعى للمواشي إلى مركز فنون وتنمية مجتمعية
يقع بيت يكن في قلب القاهرة التاريخية في
منطقة الدرب الأحمر، المشهورة بمواقعها التاريخية والتراثية المتميزة. ويعود تاريخ
هذا البيت إلى القرن السابع عشر عندما أسسه حسن أغا كوكليان، وهو الأمير حسن أغا بلفيه
الفقارى رئيس جماعة كوكللويان عام 1106هـ / 1694م فى عهد الوالى العثمانى على باشا
حين كانت مصر ولاية تابعة للسلطان العثمانى بإسطنبول، وأقام حسن أغا بجانب بيته سبيلا
مازال يحمل اسمه. أما منزله فقد آلت ملكيته إلى أولاد أخت محمد علي باشا في أوائل القرن
التاسع عشر، وهو ما أكسب هذه المنطقة بحارة اليكنية، حيث أن كلمة يكن، أو بالأحرى
"يجن" هو ابن الأخت باللغة التركية، اللغة الدارجة للعائلة محمد علي، الأمر
الذي حثّ ملاك البيت الحاليين بتسمية البيت بـ “بيت يكن" ليصبح القلب النابض لإحياء
وتنمية الحارة من جديد.
وعلى الرغم من أهمية وتاريخ بيت يكن كأحد
أروقة تاريخ حارة اليكنية والدرب الأحمر ، إلا أنه تعرض للإهمال والعبث على امتداد
حقبة طويلة من الزمان، وشغل في فترات متقطعة أعمال ونشاطات غريبة لاتتماشى مع تاريخه
وعراقته، كتحوله خلال فترة من الزمن بعد انهيار أجزاء كبيرة من ادوارة العلوية إلى
موقع لتربية المواشي والجزارة بلدى، قبل أن يتم ترميمه وحفظه مؤخراً ضمن مبادرة فردية
رائعة وملفتة بالاستفادة من الخبرات والكفاءات المصرية المحلية، بهدف إحياء دور البيت
في تنمية حارة اليكنية في المقام الأول، وتسليط الضوء على القيم الفنية والمعمارية
والبيئية التاريخية لتصبح مرجعيات للتنمية المستدامة المستقبلية، وحث مشروعات التخرج
لطلاب كليتي العمارة والفنون الجميلة، والعمل كمركز مجتمعي يستقبل الأهالي والأطفال
في المنطقة، وحثهم على التضامن في تنمية هذه الحارة بما يتناسب مع قيمتها التاريخية
من خلال تعريفهم على قيمة تراثهم.
ويحدثنا الدكتور المهندس علاء الحبشي، رئيس
قسم الهندسة المعمارية بجامعة المنوفية واستشاري ترميم وصيانة المباني الأثرية، وأحد
ملاك البيت والمسؤول عن ترميم البيت التاريخي، قائلاً "لطالما عملت من خلال تدريسي
في جامعة المنوفية على التأكيد على أهمية الحفاظ على التراث في إرساء هوية عمرانية
ومعمارية للاعتماد عليها في مشاريع التنمية المستقبلية، والتأكد بأن هذه المشاريع تملك
مرجعية ترتبط بتاريخنا وأصولنا المتوارثة."
ويضيف "لقد طبقنا هذا المفهوم في أعمال
ترميم والحفاظ على هذا المنزل الذي كان في حالة متداعية، وشغل في فترات من التاريخ
وظائف لا تمت لتاريخه أو عمرانه بصلة، من قبيل تحوله إلى موقع للجزارة ومرعى للمواشي
نتيجة لانهيار أجزاء كبيرة منه وعدم استطاعة ملاّكه المحافظة عليه. في الواقع، لطالما
كنت أتساءل وأنا أعمل في المشروع كيف لهذا التاريخ أن يُهدم ويستبدل مكانه بمشاريع
تمحو ذاكرة المكان، وتشوه من قيمته"؟
المهندسة علا سعيد، زوجة الدكتور علاء الحبشي،
وشريكته في شراء وترميم بيت يكن تحدثنا أيضاً بشغف عن بدايات هذا المشروع الغريبة،
وربما الطريفة بعض الشيء، قائلة "منذ تخرجي من الجامعة في عام 1998 بدأت بالعمل
في مشروع كان يتم تنفيذه لترميم وإعادة تأهيل البيوت التاريخية في شارع باب الوزير
في منطقة الدرب الأحمر. وخلال عملنا في مشروع ترميم بيت الرزاز خلال شهر رمضان المبارك،
كنا نجتمع على مائدة الإفطار مع العمال والمهندسين العاملين في المشروع في موقع العمل.
الطريف بالموضوع أننا كنا نحضر اللحوم للطبخ من هذا الموقع، من بيت يكن، الذي كان يستخدم
في هذه الفترة كمحل لبيع اللحوم، وهنا بدأت رحلتنا مع هذا البيت".
وتضيف "كان البيت في حالة متداعية
ومهدد بالانهيار، وكان صاحب البيت الذي تربطنا به علاقة جيدة يفكر في بيعه ولكن كان
يخشى أن يتم هدمه بعد ذلك. لذا كان يحاول التواصل مع الأشخاص والجهات المعنية التي
لديها شغف بتاريخ المنطقة لشرائه وترميمه. وهنا قررنا، أنا وزوجي، شراء هذا المنزل
وترميمه وتحويله إلى متحف فني ومركز مجتمعي يخدم أهالي المنطقة. ومنذ ذلك الحين بدأ
مشروع ترميم بيت يكن، وتحول اليوم إلى قبلة هامة لسكان المنطقة".
يشارك الدكتور علاء الحبشي زوجته هذه الذكريات،
ويتحدث عن هذا المنزل والدور الذي يقوم به اليوم قائلا "اليوم يخدم هذا المنزل
أكثر من 300 شخص، من الجيران، من خلال ورش عمل ودورات تنمية ذاتية ورحلات للأطفال للمناطق
الأثرية المحيطة ببيت يكن. والملفت أن إدارة كافة هذه الخدمات والنشاطات تتم من قبل
السيدات والمستفيدين أنفسهم من سكان المنطقة".
اليوم، وبعد نحو خمسة عشر عاماً من العمل
والجهد المستمرين في بيت يكن، استطاع المعماري الدكتور علاء الحبشي وزوجته علا سعيد،
تحقيق حلمهما بتحويل بيت يكن إلى صرح ثقافي في قلب القاهرة التاريخية، واستكمل هذا
الحلم مؤخراً بافتتاح «مكتبة علاء الحبشي للكتب النادرة» بدعم من مؤسسة بركات، والحصول
على جائزة ايكروم الشارقة للممارسات الجيدة في حفظ وحماية التراث الثقافي.
يتحدث الدكتور علاء الحبشي عن معنى الفوز
بجائزة ايكروم الشارقة قائلاً "بعد أن أرسينا المبادئ التي تعتمد على أهمية الحفاظ
على التراث الثقافي، واخترنا المسار المناسب في فلسفة ترميم المبنى بدأ المشروع يتلقى
الاهتمام والدعم كما بدأ يحصد الجوائز. وواحدة من أهم الجوائز التي حصلنا عليها هي
جائزة ايكروم الشارقة للممارسات الجيدة، وهي جائزة تمنحها منظمة ايكروم الدولية التي
يقع مقرها في روما ولها مركز إقليمي في الشارقة. وحصلنا على هذه الجائزة تكريما لجهودنا
في الحفاظ على الموقع واستخدامنا للمواد البيئية في المشروع وتفاعلنا مع المجتمع. وقد
شجعتنا هذه الجائزة على العطاء والاستمرار في العمل وتنفيذ مبادرات أخرى في المنطقة".
أعمال الترميم
من الناحية الهندسية والمعمارية، تمثلت
تدخلات الحفظ الرئيسة في بيت يكن في ترميم الأجزاء المنهارة مثل القاعة الشرقية، وتدعيم
الأجزاء المتداعية، وتصميم وتنفيذ شبكات الكهرباء وتغذية المياه والصرف الصحي وتمديدها
للأجزاء المختلفة من البيت. كما تضمنت أيضا أعمال الترميم الدقيق لإظهار المراحل التاريخية
المختلفة التي مرت على البيت، وربط ذلك بتاريخ مدينة القاهرة، دون أن يؤثر ذلك على
توظيف الفراغات الداخلية.
كما شملت التدخلات أيضاً تصميم وتنفيذ إضافات
معمارية حديثة مطلوبة لإعادة الاستخدام، منها السلمين الرئيسي والثانوي بدلا من سلم
حجري كان مضافاً ومنهاراً، وإعادة تهيئة فراغات الدور الثاني المدمرة لتوفير سكن للعائلة
وللباحثين، كما تم ادراج بعض العناصر التاريخية ذات القيمة الاستثنائية من خارج البيت
كانت عرضة للإهمال قبل أن يتم انقاذها واستخدامها مجدداً في البيت.
إضافة إلى ذلك تم تصميم وتنفيذ وحدة طاقة
شمسية لتوليد الطاقة الكهربائية في الموقع، مما جعل بيت يكن أول نموذج مشروع صفري الطاقة
في المدينة التاريخية. بينما تم زراعة الفناء بمجموعات من الأعشاب الطبية بالشراكة
مع المجتمع المحلي، ليحول البيت إلى نواة لمساحات خضراء في المدينة التاريخية. أما
أهم التدخلات تأثيرا فكانت برامج التوعية التي تم تنفيذها ضمن المجتمع للحفاظ على تراثه
وهويته، وتهدف لإحياء الحرف التقليدية كنواة لتنشيط الإقتصاد المحلي في المنطقة.
ويتألف بيت يكن من مبنى كبير من طابقين
بارتفاعات شاهقة، ويتميز بفناء داخلي ونافورة في الوسط. بينما يحتوي المنزل التاريخى
اليوم، بعد عملية الترميم وإعادة الإحياء، على بهو كبير، وصالتى عرض كبيرتين، يتم عرض
فيهما المنتجات الحرفية لحرفيي المنطقة، والأعمال الفنية التي يقوم بتنفيذها سيدات
وأطفال المنطقة المشاركون في الورش التعليمية والتثقيفية ببيت يكن، وكذك معارض دورية
لمشروعات طلاب العمارة من الجامعات المصرية المختلفة المتعلقة بكيفية احياء المناطق
التاريخية في المدن المصرية، ، كما تخصص هذه القاعات وفناء البيت لعقد اللقاءات والندوات
والمحاضرات التثقيفية الخاصة بأهمية الحفاظ واحياء التراث، بينما خصصت أفضل قاعة في
البيت مؤخرا لاحتضان مشروع مكتبة علاء الحبشي للكتب النادرة.
شواهد من التراث العالمي
يعتبر بيت يكن اليوم واحد من أبرز بيوت
القاهرة التاريخية، المسجلة في قائمة التراث العالمي، التي سكنتها عدد من العائلات
الارستقراطية حتى منتصف القرن العشرين، قبل أن يتم هجرها وتداعيها نظراً للاهمال وغياب
المبادرات التي تهدف للحفاظ عليها. ولم يتبق من هذه البيوت والتي تم تسجيلها كمباني
أثرية، سوى خمسة عشر بيتا، أغلبها لا يقدم اليوم دوراً تنموياً واضحاً للمجتمعات المحيطة.
ويشير الدكتور الحبشي إلى أن "باقي
البيوت في المنطقة، والتي كان يزيد عددها في أوج نشاط المدينة عن أكثر من خمسمائة بيت،
فهي لازالت عرضة للهدم وتحويلها إلى عمارات خرسانية لا تنتمي إلى نسق المدينة، وهو
المصير الذي أنقذنا أن يؤول إليه بيت يكن، تشوه البيئة العمرانية للمنطقة، وتفكك المجتمعات
التي كانت تتخذ من هذه البيوت مراكز اقتصادية ومرجعية تعزز هويتها الثقافية والتراثية."
ويضيف أن "ترميم وإعادة تأهيل ما تبقى من هذه البيوت هي ضرورة للحفاظ على الشواهد
التي تبرز القيم الإستثنائية للمدينة، ولإبقاء الأمل في الترابط المجتمعي والتوازن
البيئي، وكذلك لتفعيل التنمية الثقافية والإقتصادية؛ وهو الأمر الذي حققه بيت يكن في
محيطه المباشر"، وهو ما جعل لهذا المشروع القيّم وأهله أن يكون من بين المشاريع
الفائزة بجائزة ايكروم الشارقة للممارسات الجيدة في حفظ وحماية التراث الثقافي في المنطقة
العربية.