• العمل الفني الجديد يبرز دروس النضال الكبرى: الصمود أقوى من السجن، والشهادة إيمان رائع، ونزيف المناضلين هو الأطهر والأسمى
أولا يسعدني أنني كنت من أوائل الذين نبهوا لهذه التجربة النضالية الإبداعية النوعية التي بدأها الشاعر أيمن أبو الشعر منذ ثلاث سنوات تقريبا، وتوقعت لها أن تتألق، فقد جمع الشاعر في بوتقة واحدة عناصر الجمال الصوتي الثلاث دفعة واحدة الشعر المميز، واللحن الجميل، والصوت الغنائي الرائع، فحقق ما يمكن أن يعطيه هذا الثالوث الفني في نفوس الذواقة، ولكن في الأمر سر آخر.
بديهي أن تنتبه الآذان الحساسة عموما لما هو جميل، ولكن الذي شدني بشكل خاص إلى هذه التجربة ليس الذائقة الجمالية وحدها، بل هو أن معظم نتاجات هذا الثلاثي تمحورت حول القضية الفلسطينية، وبزخم كبير ونوعي بأن معا حيث قدمت مقاطع من قصائد كتبها الشاعر لفلسطين تحديدا، كما في انهض، وعودة الشهيد، ثم هذا العمل الجديد "أشرف الألوان" الذي يتحدث عن أهم ملامح نضال الشعب الفلسطيني، وحتى لا يكون كلامي إنشائيا تعالوا فلنتأمل قليلا في هذا العمل الإبداعي الفلسطيني بامتياز.
أولا نلاحظ على الفور أن في هذا المقطع الشعري تكثيفا هائلا بصياغة مذهلة عبر السهل الممتنع، فقد يبدو للوهلة الأولى أنه كلام شعبي بسيط، إلا أنه في الواقع لقطات انتقائية رهيفة جدا لأهم دوافع وبواعث استمرار نضال الشعب الفلسطيني:
1- يبدأ العمل بالرؤى التي تظهر لدى الشاعر محرضة على النضال، فهناك واقع لا يمكن السكوت عنه، وهو يشكل أحد أهم دوافع متابعة النضال الفلسطيني حيث "تتراءى له أخيلة وجوه الأهل وأطياف رفاق الدرب" أي الناس الذين ينتظرون الخلاص والرفاق الذين يناضلون من أجل تحقيقه، ومن ثم الانعطاف نحو العمق حيث هناك شهداء كثر، وأيُّ تراخ عن متابعة النضال هو خيانة لهؤلاء الذين قدموا أرواحهم فداء لفلسطين، ومن هنا يظهر نداء الأم بأن يعود ابنها شهيدا تعتز به وتشمخ لا أن يكون حيا، بانسحابه من درب النضال، "عد لي جثمانا أرفع رأسي وأقبّل نعشك، لا ترجع لي منسحبا وجبان".
2- ينتقل إلى العناصر النضالية الخالدة برموزها الرئيسية كمؤشرات ودليل لدرب المناضلين كي يسترشدوا بها حيث تتكرر كلمة "علَّمَني" أي أن هذه الرموز دروس حقيقية ثابتة: -صمود الأبطال في سجون الاحتلال والذي يُعلِّم أن "إرادة رجل حر أقوى من قفل السجان" – ومن ثم الدرس الهائل في أن سقوط الشهداء هو حالة ركوع وصلاة تجسد أسمى المشاعر الإنسانية في الإيمان، "أن ركوع شهيد فوق التربة أسمى آيات الإيمان" – وأخيرا إدراك المناضل أنه قد يصاب، ولكن الدرس الأكبر للأحياء هو أن "لون الجرح النازف" وهو يناضل في سبيل تحقيق الحلم الفلسطيني "أشرف من كل الألوان"... تكثيف هائل بعبارات بسيطة وسهلة وسلسة وعذبة للسان، ولهذا كما يبدو لي ظلت الجماهير تردد هذه الأبيات منذ عشرات السنين وحتى الآن، ومن يتابع عشرات التعليقات على هذا العمل الذي نشره الشاعر في صفحته في الفيس بوك سيدرك جيدا ما أقوله، فالكل يردد نعم إننا نحفظ هذه الأبيات منذ عشرات السنين.
الرائع أن هذه الأعمال التي يقدمها الشاعر أيمن أبو الشعر بألحان الفنان المبدع معن دوارة والصوت الرخيم العذب للمطربة لانا هابراسو جددت تلك الأجواء الحميمة التي كان قد انطلق بها الشيخ إمام بأشعار أحمد فؤاد نجم، ومارسيل خليفة، بأشعار محمود درويش، وتصب كل هذه المساهمات القديمة والجديدة عبر طريق واحدة نحو تحقيق قيام دولة فلسطين على أرض الواقع، فنحن لا نريد رفع شعارات لا يمكن تحقيقها فتضيع هباءً، وتضيّع الناس هدرا، لأن من يحمل سيفا أكبر من قامته يقوم بعمل استعراضي كونه لن يستطيع أن يقاتل به، ولكننا ندرك تماما أن تحقيق قيام الدولة الفلسطينية أمر ممكن ويجب أن يتحقق، وأطفال الحجارة باتوا رجالا أشداء قادرين على بناء هذا الصرح الذي تتكامل يوما بعد يوم جذوره، وتغوص عميقا في تربة فلسطين وأرض الواقع، ما يذكر بقصيدة قديمة جدا للشاعر أيمن أبو الشعر عن الانتفاضة الأولى التي شجت رأس إسرائيل بالأحجار، حيث ينهيها بخاتمة تشع تفاؤلا: " ناوِل شقيقك يا عمر! الآن أومِنُ أن قرصَ الشمس قد أمسى على مرمى حجر"! نعم إن شمس تحقيق قيام الدولة الفلسطينية قد أمسى على مرمى حجر!
أشرف الألوان
تَتراءى لي أخيلةُ وجوهِ الأهلِ
وأطيافُ رفاقِ الدربِ وجثثُ الشهداءِ
وتهتفُ أمي من بين الحشدِ: حبيبي
عُدْ لي جثماناً أرفعُ رأسي وأقبِّلُ نعشَكَ
لا ترجعْ لي مُنسحِباً وجبانْ
فأسارعُ بالنصلِ الخانعِ أبترُ كلَّ أصابعِ كفيَّ
لكيلا ترضى أن تُمسكَ قلماً
يرضى توقيعَ الذلِّ وأهتفُ:
إنّي أزدادُ إباءً وشموخاً إذ يزدادُ طعانُ الأوغادْ
فجنونُ السوطِ على الجَسدِ الصامِدِ
تعبيرٌ عن خوفِ الجلّادْ
علَّمني بوحُ جدارِ السجنِ
بأنَّ إرادةَ رجلٍ حرٍّ
أقوى من قفلِ السجّانْ
علَّمني قبرُ فدائيٍّ أنَّ ركوعَ شهيدٍ فوقَ التربةِ
أسمى آياتِ الإيمانْ
علَّمني لونُ الجُرحِ النازفِ
أنَّ الأحمرَ أشرفُ من كلِّ الألوانْ