طباعة
sada-elarab.com/632073
في زيارة رسمية في أواخر الثمانينات لسنغافورة، حيث عقد مؤتمر السياحة الدولي وبتكليف من المرحوم طارق عبدالرحمن المؤيد وزير الإعلام الأسبق طيب الله ثراه للدعوة لعقد المؤتمر القادم في البحرين كنت أمثل الوزير والدكتور كاظم إبراهيم رجب مدير السياحة وقتها والأستاذ محمد بوزيزي يمثل فنادق البحرين، وطلبت مني أم العيال أن أحضر معي البخور الذي تشتهر به أسواق سنغافورة.
وبالفعل عندما وصلنا استأجرت سيارة من الفندق الذي كنا نقيم فيه، وطلبت منه أن يدلني على محلات البخور لأشتري منه ما يرضي طموح أم العيال، وبالفعل أخذ السائق وهو من أصول صينية يطوف بي في دكاكين بائعي البخور الصينيين والأنواع الكثيرة ومنها بخور الصندل، وفي كل مرة أقول له «ليس هذا هو البخور الذي تطلبه أم العيال» وكان يصر على أن يطوف بي في عدد من المحلات وفي كل مرة أقول له «لا ليس هذا» ولما يأس مني قال «الآن فهمت ما تريد سأذهب معك إلى سوق العرب في مدينة سنغافورة».
وبالفعل عندما وصلت تعرفت على البائع صاحب المحل وكان عربيًا من حضرموت هاجر أجداده وآباؤه وفتحوا محلات في هذا الشارع وأطلق عليه شارع العرب، والمهم أني وجدت ضالتي، وكنت في مقال قديم قد ذكرت هذه الحادثة، تأكيدًا لقيمة الطيب والبخور في حياتنا اليومية والمناسبات السعيدة.
قصة سنغافورة ذكرتني ببخور وعود كمبوديا، ففي زيارة للمشاركة في البرلمانات الآسيوية أيام كنت عضوًا بمجلس الشورى بمملكة البحرين ذهبت أبحث في الأسواق عن العود ودهن العود ومعنا زملاء من مجلس التعاون، وإذا أجود أنواع البخور والعود ودهن العود معروضة علينا، وأخذ البائع يعطرنا ويحرق البخور تأكيدًا منه أنه أصلي، وعندما حان موعد الطلب فالبعض طلب شراء ما قيمته من مائتين إلى أربعمائة دولار، وإذا البائع أسقط في يديه وقال: «أنتم تجشمتم كل هذا التعب وتعرضون الشراء بهذه المبالغ الزهيدة، ومن يومين جاء أحد إلينا واشترى بآلاف الدولارات». ولن تجدوا مثل هذه البضاعة عند غيرنا، فأشجار العود والبخور أشجار معمرة وحمايتها تتطلب عناية خاصة ونحن نصدر لجميع أنحاء العالم ومنها بلادكم، فأشجار البخور معمرة ونادرة.. فأجبر بخاطرنا ووافق على الشراء بالمبالغ التي قدمناها له، وقال مثلما تعبتم في الوصول إلينا فإني سأقوم بتطييبكم، وأدعو لي بالتوفيق.
إنه العود والبخور وارتباطنا بهما يذكرنا بالمناسبات السعيدة، ولا يكاد يخلو بيت من هذا الطيب، ودخل الطيب في أمثالنا الشعبية والحكم القولية وأصبح جزءًا أساسيًا من تطييب البيوت. كان العود الهندي هو أول من عرفه البحرينيون بحكم التواصل والأسفار، ورحم الله عبدالعزيز الباكر تاجر العود البحريني الذي كان بنفسه يذهب إلى الهند وينتقي أجود أنواع العود ودهن العود، وكنت عندما أذهب لسوق المنامة أمر عليه رحمه الله وأسكنه فسيح جناته فيروي قصص حصوله على هذه البضاعة التي لا يعرفها جيدًا إلا من خبر أنواع البخور والعود ودهن العود، وعلى رغم من صغر دكان المرحوم عبدالعزيز الباكر إلا أن أهلنا الكويتيين يعرفون طريقهم إليه عندما يأتون لسوق المنامة.
العود والبخور يكثر الطلب عليهم هذه الأيام أيام ليالي رمضان وحتى أيام العيد طبعًا مجتمعنا بحكم الخبرة هناك من هم على دراية كاملة بأجود أنواع الطيب وعلى رغم عدد المحلات التي تخصصت في بيع هذا النوع من البخور إلا أن البحث عن الجيد يحتاج إلى خبرة وتجربة، كما أن البائع يجب أن يتحلى بالضمير الحي، فأسعار الطيب ليست قليلة، ومن ينفق الكثير من ماله يسعى للحصول على أجود أنواع الطيب..
كانت الأمهات يضعن الطيب في ملابس الابن الرضيع، لأنه كان ينتقل من حضن إلى حضن، فالأم كانت تحرص على أن تكون رائحة رضيعها طيبة، وهو دليل على عناية الأم برضيعها، ولا أحسب أن أحداً من أبنائنا وأحفادنا يهتم بهذا النوع من الطيب إلا من رحم ربي، فأنواع العطور كثرت، وهناك من تفنن في صنع أنواع العطور للأطفال والناشئة والكبار، فالاهتمام بالبخور يكبر مع ذريتنا. وثقافة البخور ثقافة موسوعية تحتاج إلى متخصصين يبينوا للناس أهيمتها والعناية بها.
لازلنا نذكر ما كان يسمى «عود المسجد» والذي كان الأجداد والآباء يضعونه بالفعل في المسجد عند كل صلاة، وهذا العود عبارة عن عيدان رفيعة يتم حرقها ببطء حتى تعم رائحته المكان وكان مصدر «عود المسجد» يأتي من الهند ثم تفنن الصينيون بإنتاجه، وعود المسجد أيضًا يتم الاحتفاظ به سابقًا في البيوت ويحرق في المناسبات ومن بينها يوم الجمعة.
لعلّي قد بالغت في اهتمام مجتمعنا بالطيب ولكن كان ذلك الزمن الجميل يذكرنا بأن مجتمعنا العربي والإسلامي كان يؤمن بأهمية البخور للراحة النفسية، وهو أحيانًا تعبير عن أهمية الضيف الذي حل وزار فتقديم أجود أنواع الطيب جزء أساسي من إكرام الضيف وهو تعبير عملي عن مكانة الضيف والفرح بمقدمه والتبرك بزيارته المرتقبة.
وعلى الخير والمحبة نلتقي.