كنا في مثل هذه الأيام الشتوية ننعم بالشتاء الجميل، وإذ دعوة تأتي إليّ من ابن عمي المرحوم سلمان بن أحمد بن غانم المطوع الذوادي، يرحمه الله ومثواه الجنة ورضوان النعيم، من دارين بالمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية الشقيقة لتجربة البر في منطقتي «النعيرية» و«سعيرة»، من الوجيه المرحوم عبدالرزاق الهارون من وجهاء دارين ورجل الطواشة والغوص على اللؤلؤ وأولاده، وهي دعوة عشاء ومبيت، كما دعا إليها مضيفنا أصدقاءه من البحرين الوجيه وتاجر اللؤلؤ السيد حسن بن يوسف المناعي وأولاده طيب الله ثراه، أيامها كان البر عبارة عن تشكيلة من الزهور البرية من مختلف الألوان، وكانت الأرض قد جادت بنبات الكمأة «الفقع» الطبيعي الذي أنبته ماء السماء واحتضنته أرض ورمال الخير بالجارة المملكة العربية السعودية الشقيقة.
وكان المخيم ما شاء الله كبيرًا ودعا الوجيه عبدالرزاق بن هارون أصدقاءه وجيرانه وبعض أفراد عائلته، فكان الحديث عن خيرات البر، وأننا سنذوق الليلة أشهر أنواع «الكمأة» مخلوطة بالغوزي المطبوخ على الفحم، وتحيط به رمال الصحراء فتضيف إليه حرارة تنضج اللحم بصورة تدريجية مع عمل حفرة عميقة تكون القدور بوسطها.
وكان المرحوم يشرف بنفسه مع تكليف ابنيه الأستاذ إبراهيم ومحمد بالاهتمام بالوليمة وفي نفس الوقت مباشرة الضيوف، ولما كنا قد وصلنا من دارين إلى البر ليلاً فلم يتسنَّ لنا البحث عن الكمأة ووعدنا مضيفنا عبدالرزاق أن نخرج إلى البر في الصباح الباكر لنمارس هواية ورغبة العثور على الفقع «الكمأة»، وما علينا الليلة إلا التلذذ بأكل الغوزي المحاط بشتى أنواع الكمأة.
كانت ليلة من ليالي العيشة في الحياة الفطرية يسودها الوئام والمحبة والألفة والطيبة، والذكريات الحلوة والحديث عن العلاقات الطيبة والأخوية الممتدة عبر التاريخ بين الأشقاء بالمملكة العربية السعودية ومملكة البحرين وشرب أنواع الشاي المطبوخ على الفحم وبالذات القرفة «الدارسين» والزنجبيل والشاي الأحمر، وحديث ممتع عن الغوص وأيامه وأحجام اللؤلؤ والدانات وأنواعها وألوانها ورجال الغوص وفنونهم والمصاعب التي واجهوها، وبيع اللؤلؤ في أسواق الهند وبالذات مومبي، حيث كانوا يترقبون ويتطلعون إلى أجود أنواع اللؤلؤ التي تأتي إليهم من الخليج العربي والبحرين خاصة، مع أخذ البضائع وما يحتاجون إليه من أسواق الهند وبالذات سوق محمد علي في مومبي، وكان البحرينيون يطلقون عليه «محمد علي رود».
وفي الصباح الباكر بعد أداء صلاة الفجر جماعة، انطلقنا إلى البر بحثًا عن الكمأة، وإذ بنا بعد سويعات نعجز عن حمل ما حصلنا عليه، وعندها رضينا بقسمة مضيفنا ثقة منا به وبإنصافه لكل واحد منا، فالخير ولله الحمد كثير والكل بذل مجهودًا في التحصيل والجمع.
وعندما ذهبنا إلى الصلاة من يوم الجمعة في سعيرة وجدنا بعد الصلاة أن الباعة من كل الأنحاء قد أتوا يعرضون بضاعتهم من «الكمأة» بمنزلة المزاد وبأسعار مغرية جدًا وبأنواع يعجز المرء عن حصرها وفهم أسمائها إلا للمتخصصين من أبناء البادية، فاشترينا منهم أيضًا الكمأة لبيوتنا وهدايا للجيران والأصدقاء ولمن يعز علينا.
وبالفعل عندما غادرنا المخيم قام مضيفنا الوجيه عبدالرزاق الهارون بإعطائنا أيضًا هدايا من أجمل وأطيب أنواع الكمأة، فالناس في بلادي يتباركون بالفقع «الكمأة» ويعتبرون ذلك من خيرات الله سبحانه وتعالى في صحرائنا العربية، ويتطلعون إلى موسمه بكل الشوق والوله، ويتفنن الخليجيون في طبخ الفقع بطرق مختلفة بعضها للفطور وبعضها للغداء والعشاء، ويتهادون به فهو مرحب به من الجميع، المقتدرين وغير المقتدرين.
إن الحياة على تعقدها وتشابكها وصعوبتها وسهولتها تفترض فينا أن نعيش مع الطبيعة التي حبانا الله بها ونتمتع بالجمال المتاح لنا، وأجمل شيء هو أن نتزاور ويكون التواصل بيننا فقد كان الأجداد والآباء لا يفوّتون هذه الفرص السانحه لهم، ويستذكرون أيامهم بحلوها ومرها وتواصلهم مع الآخرين الذين يختلفون عنهم إلا أن المصالح والمنافع متبادلة، وفي ذلك إثراء للتجارب والخبرات والشعور الإنساني بحتمية حاجة كل واحد منا للآخر.
ما أجمل أن نعيش في أحضان الطبيعة كالبر والبحر والبساتين، فقد اعتاد البحرينيون أن يقضوا أوقاتهم في الراحات في البر أيام الشتاء والبحر تقريبًا طوال السنة، كذلك في البساتين حيث ثمار النخيل واللوز والكنار والتين وشتى أنواع الخضروات في المزارع والحدائق العامة والخاصة، والناس بفطرتهم يشعرون ببركة الصدقة الجارية إن هم أطعموا الناس من خيرات مزارعهم.
لقد اعتدنا أن نستقبل بعضنا بعضًا بالود والترحاب وتبادل الهدايا من الأرض المعطاء، وهذا التكافل الاجتماعي أضاف إلى حياتنا وعيشتنا معنى ومبنى ووطد العلاقات فامتدت أواصرها أجيال بعد أجيال، ونحن بحاجة إلى استذكار ذلك والبناء على ما تم تأسيسه فالخير يعم ونحن نتطلع إلى ذلك بروح ما نملك من إنسانية وفطرة وسليقة خيرة لمصلحتنا ومصلحة مجتمعنا والعيش المشترك في وئام ومحبة وصفاء، وننعم بخيرات بحرنا وجزرنا وبرنا ومزارعنا.
وعلى الخير والمحبة نلتقي..