الاشراف والقبائل العربية
د. أحمد حسين النمكى
قبل أن نتكلم عن أنساب الأشراف وتاريخهم ودورهم الريادي والحضاري يجب أن نتقدم ولو بقليل من البحث عن أهمية علم الأنساب ، فيعتبر هذا العلم من العلوم التاريخية والإنسانية التي تهتم بصلات الفروع بالأصول والعناصر البشرية المهاجرة بجذورها ومواطنها الأصلية ، أي أنه يهتم بتنقلات وترحال العناصر التي تركت أماكنها لسبب أو لآخر ، ومن ثم اهتم به كثير من المؤرخين في تاريخ الإسلام ، وكانوا من ذوى القدم الراسخة في هذا المجال ، فمنهم من اهتم بتاريخ القبائل العربية وتحركاتها وأماكن استيطانها ودورها السياسي والحضاري وما قامت به في مجال السلم والحرب ، ومنهم من اهتم بتدوين أنساب قبائل الأشراف وأصبح هذا المجال شغلهم الشاغل .
ومن المعروف لدى علماء التاريخ والعلوم الإنسانية أن دراسة الأنساب قد حظيت باهتمام كبير وخاصة أن هذا العلم أصبح وسيلة هامة للربط بين أبناء الأسرة أو القبيلة الواحدة ، كما يعتبر العرب أكثر الشعوب اهتماماً وتمسكاً بهذا العلم حتى أن مؤرخي العرب والإسلام قد لفتوا أنظار المستشرقين لهذا العلم ، وقد اعتبر هؤلاء المؤرخون والنسابون القبيلة محور ارتكازهم في عملهم الذي يدور حول جميع أفراد القبيلة .
ولما كان علم الأنساب وسيلة من الوسائل الهامة التي تربط بين أفراد القبيلة شرقاً وغرباً فإن هذا العمل يخلق نوعاً من النسيج الاجتماعي لتوحيد القبيلة وجمع شتاتها وربط بعيدها من تمزق وتجمع القاصي والداني ، ومن ثم كان علم الأنساب سبباً في خلق وحدات اجتماعية أو تجمع بشرى يرتبط برباط النسب ، فإن الله تعالى خلق الخلق للتعارف قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13 والتعارف في غالب الأحوال لا يكون إلا نتيجة لعلم الأنساب ، ولا توجد وسيلة للتعارف والترابط أفضل من ضبط الأنساب ، الأمر الذي جعل دراسة هذا العلم والاهتمام به من أهم العلوم لدى العرب ، ونظراً لأهميته فقد يمم كثير من المستشرقين وجوههم نحو هذا العلم ، وهذا يكشف سر اهتمام المؤرخين العرب والمسلمين وتركهم العديد من المؤلفات الهامة في مجال دراسة الأنساب التي تدلل على عظيم فخرهم بالأنساب ومبلغ اهتمامهم بها .
لقد ترك ابن السائب الكلبى كتاباً رائعاً في علم الأنساب وهو " أنساب الأشراف " وترك مصعب الزبيرى " نسب قريش " وكذلك السمعانى الذي ترك كتاب " الأنساب " وترك ابن حزم الأندلسي كتاب " جمهرة الأنساب " وترك محمد الهمذانى كتاب " جمهرة أنساب العرب " وترك السدوسى كتاب " الإكليل " وغير ذلك من المؤلفات الرائعة في مجال علم الأنساب .
وكان منطقياً أن يشرع المؤرخون والنسابون في تسجيل جمهرة أنساب الأشراف الذين ينتمون إلى الأسرة النبوية الطاهرة من أبناء رسول الله وأبناء فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأبناء الحسن والحسين رضي الله عنهم ، فقد سبق المروزى وألف كتاب " أنساب الطالبيين " وكثرت المشجرات والمؤلفات في هذا الشأن بغية المحافظة على أنساب الأشراف .
وفى العصرين الأموي والعباسي اهتم المؤرخون بعلم الأنساب اهتماماً كبيراً على الرغم أن هناك الكثير من القبائل العربية قد تأثرت بعوامل الزمن والبعد المكاني وكثرة الهجرات العربية إلى مختلف أنحاء الدولة الإسلامية وأقطارها ، وقد يكون هذا عاملاً من عوامل الفتور في الاحتفاظ بالأنساب نظراً للاختلاط الشديد بالعناصر الأخرى غير العربية .
ونظراً للانخراط في الحياة المدنية والاختلاط الاجتماعي فترت عند البعض حرارة الاهتمام بالأنساب فضلاً عن جهالة البعض بأنسابهم وضياع الوثائق الدالة على أنساب الفارين والمهاجرين التاركين لبلادهم وأوطانهم . وعلى الرغم من هذا كله فإن حرارة البحث والتنقيب عن الأنساب لم تفتر لاسيما عند قبائل الأشراف ، فترى البعض منهم يجوب البلاد طولاً وعرضاً ويحمل نسبه بين يديه ويصدق عليه من القضاة أو كبار الأشراف في كل مدينة يحل بها ، وترى البعض من الأشراف يذرع الأرض ولا يعود إلى وطنه قبل أن يصل إلى أصله ونسبه وجذوره والقبيلة التي ينتمي إليها أو خرج منها ولا يعود إلا ومعه عمود نسبه كاملاً ... هكذا الأشراف أكثر البشر بحثاً عن تسلسل أنسابهم
ولقد اهتم المسلمون بعلم الأنساب من منطلق صلة الأرحام ومحبة الأهل والترابط القبلي ، لأن هذا العلم يختص بمعرفة الأصول والفروع وهذا من الأمور المرعية التي تتعلق بأمور شرعية كالزواج والتوريث والحكم وغير ذلك في الإسلام ، ولم يكن منشأ هذا العلم هو التفاخر بالأنساب والأحساب فقط ، وقد ورد عن النبي أنه قال " تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم " .
وللكلام بقية