منوعات
"التويجري" يحاضر في جامعة الملك عبد العزيز بجدة
الخميس 15/فبراير/2018 - 09:52 ص
طباعة
sada-elarab.com/82736
ألـقـى الدكتـور عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -إيسيسكو-، في جامعة الملك عبد العزيز بجدة محاضرة حول موضوع (اللغة العربية والهوية الثقافية)، بحضور مدير الجامعة ووكلائها وعمداء الكليات والمعاهد وأعضاء هيئة التدريس بعدد من الكليات، وشخصيات ثقافية وأكاديمية، وجمع من الطلاب.
واستهل الدكتور التويجري المحاضرة بالإشارة إلى أن قضايا اللغة والثقافة والهوية لا يمكن أن تنفصل عن قضايا الأمة العربية الإسلامية، على تعدد مناحيها واختلاف موضوعاتها، موضحاً أن الحديث عن ضعف اللغة، أو ضعف الارتباط بالثقافة، أو ضعف الانتماء إلى الهوية، هو حديث عن ضعف أهل تلك اللغة والثقافة والهوية، وهي أمور تترتَّـب عليها أوضاع كثيرة، وتتولد عنها أنواعٌ من الضعف، تؤثّـر على أمن المجتمع فكرياً وحضارياً.
وأوضح أن هذه العناصر الثلاثة تشكل البناء الثقافي والحضاري للشخصية العربية المسلمة، لأن اللغة هي وسيلة التخاطب، ووعاء الفكر، والثقافة تنبثق أساساً عن اللغة، أما الهوية فهي الخصوصية التي تأتي من الانتماء إلى اللغة، ثم من الانتماء إلى الثقافة، فتتكوّن من هذين الانتماءين الهويةُ اللغوية، وعلى أساسها تقوم الهويةُ الثقافية، ثم الهوية الوطنية.
وبيَّـن أن اللغة العربية تواجه اليوم تحدياتٍ مختلفةً في هذا العصر الذي يتصف بتفجّر المعرفة في جميع مجالاتها، تمسّ تعليمَها واستخدامَها، ولا تمسّ إطلاقاً إعرابها وصرفَها ونظم تركيبها، لأن هذه من الثوابت التي بدونها تفقد اللغة مقوماتها الأصيلة، فالعربية ثابتةٌ من حيث نطقُها ونحوُها وصرفُها، ولكنها ناميةٌ من حيث أساليبُها ومفرداتُها ودلالاتُ ألفاظها، كما تواجه مزاحمةً شرسةً من اللغات الأجنبية التي أصبحت سائدة في كثير من المجتمعات العربية، ومن العاميات واللهجات القومية التي يُـراد لها أن تُـنافسَ سيادةَ اللغة العربية، وتُـضعف حضورَها في الحياة العامة وفي مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام ومنابر الثقافة.
وأعلن أنَّ مستقبلنا العلمي والحضاري مرتبطان بقضية تعريب العلم والتعليم، فلا يعقل أن نخوض مجالات العلم الحديث ونواكب تقاناته وننعم بمنجزاته، وتبقى لغتنا غريبةً عن أجواء العلم وحركـيّـته وتقنياته وإبداعه، وأن الأوان قـد حان لكي تصبح اللغة العلمية جزءاً من حياتنا اليومية في المدرسة والبيت والمصنع، وأن تغدو الثقافة العلمية جزءاً من ثقافة الصانع والطالب والمعلم والصحافي والأديب وصاحب الاختصاص الفني.
وأضاف إن مستقبل اللغة العربية يرتبط باستخدامها المتزايد والجادّ في شبكات المعلومات العالمية، فقد شهدت تقنيات المعلومات تحوّلاً هائلاً من أجل تيسير إتاحة المعلومات عبر الحدود والقارات والحضارات، التي تقوم حالياً ـ في غالب الأحيان ـ على اللغة الإنجليزية، وأن هناك جهوداً أوروبية قوية تتم لجعل الإتاحة باللغات الأوروبية الكبرى، وفي مقدمتها الألمانية والفرنسية والإسبانية، ولن يمرّ وقت طويل حتى نجد العربية قد اتخذت مكانها في شبكات المعلومات عبر الحدود.
وبـيَّـن أن تطوير اللغة العربية يتطلب أن تصبح منتجة للعلم، حتى تتبوأ المكانة الرفيعة بين لغات العالم، مشيراً إلى أن العربية لما كانت في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، لغةً للعلم بمدلوله الشامل، ارتقت إلى الذروة، وحازت قصب السبق بين اللغات العالمية.
وأكد أن اللغة العربية قضية استراتيجية في المقام الأول، تمس الأمن الثقافي والحضاري للأمة، فإن المسألة، في عمقها وجوهرها، تتطلب يقظة أشمل وأعمق، وحركة أكبر وأنشط، وعملاً أكثر جديةً وفعالية، واستنفاراً للطاقات الحية وحشداً للجهود المخلصة، في إطارٍ من التنسيق والتكامل والتعاون، والعمل العربي المشترك على مستوى المنظمات والمؤسسات والجامعات والهيئات المختصة، من أجل تجويد تعليم اللغة العربية لأبنائها، وتوسيع نطاق تعليمها لغير الناطقين بها، خاصة في البلاد الأفريقية والآسيوية، وفي أوساط الجاليات العربية الإسلامية في بلاد المهجر.
وأشار المحاضر إلى أن الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية تؤمن بالرسالة الحضارية للغة العربية، وتحمي الهوية الثقافية للأمة بحماية لسانها، لأن في ذلك ترسيخاً للكيان العربي الإسلامي الكبير، وتقويةً لدعائمه.
وأكد أن اللغة العربية هي العروة الوثقى التي تجمع بين الشعوب العربية والشعوب الإسلامية التي شاركت في ازدهار الثقافة العربية الإسلامية، وبهذا الاعتبار، فإن الوفاق العربي والتضامن الإسلامي، لابد أن يقوما على هذا الأساس المتين، لغة القرآن الكريم، ولغة الثقافة العربية الإسلامية، ومن هنا تبدو الأهمية الكبرى لتدعيم مكانة اللغة العربية والعمل على نشرها وتعليمها، لأن في ذلك حمايةً للأمن الثقافي الحضاري للأمة العربية الإسلامية.
وذكر أن اللغة هي أهم الروابط المعنوية التي تربط الفرد بغيره، لأنها واسطة التفاهم بين الناس، وآلة التفكير عند الفرد، وواسطة نقل الأفكار والمكتسبات من الآباء إلى الأبناء، ومن الأسلاف إلى الأخلاف، وأن الأمة التي تنسى تاريخها تكون قد فقدت شعورها وأصبحت في حالة سبات، لا تفيق منه إلاّ بالعودة إلى تاريخها، لأنّ الأمة إذا فقدت لغتها تكون عندئذ قد فقدت الحياة، ولا مستقبل لأمة فرطت في لغتها، وليس في المستطاع مواجهة تحديات العولمة بلغة لا تتوافر لها شروط المواجهة.
وأوضح أن اللغة العربية مقوِّمٌ أساسٌ من مقوّمات الثقافة العربية الإسلامية، لأن العربية ليست لغة أداة فحسب، ولكنها لغة فكر أساساً، وحتى الشعوب والأمم التي انضوت تحت لواء الإسلام، وإن كانت احتفظت بلغاتها الوطنية، فإنها اتخذت من اللغة العربية وسيلةً للارتقاء الثقافي والفكري، وأدخلت الحروف العربية إلى لغاتها فصارت تكتب بها، وأدخلت كلمات عربية كثيرة في صلبها.
وقال إن أهمّ خاصية تتميّز بها الثقافة العربية، أنها امتزجت بالثقافات الأخرى التي كانت سائدةً زمن ظهور الإسلام، وتفتّحت لعطاء الأجناس والأقوام وأهل الديانات والعقائد التي تعايشت مع المجتمع العربي الإسلامي، فصارت بذلك ثقافةٌ غنيةَ المحتوى، متعدّدةَ الروافد، متنوعةَ المصادر، ولكنها ذات روح واحدة، وهويّة متميّزة متفرّدة.
ثم أضاف قائلاً : « إن من أهمّ خصائص الثقافة العربية الإسلامية الانفتاحَ على الثقافات الشرقية والغربية، مع المحافظة على الأصول الثابتة من دون تجاوزها، وقد واجهت الثقافة العربية الإسلامية كثيراً من التحديات في تاريخها الطويل، وهي تحديات المذاهب الفلسفية والأديان والدعوات المختلفة التي كان يزخر بها العالم آنذاك، من بوذيّـة، ومجوسية، ووثنية، وهلٍّـينية، وهندية، وفارسية، لكنها لم تنهزم أو تضمحل، بل استطاعت أن تستوعب المفيد منها وتطبعه بروحها ومقاصدها».
وشرح كيف أن هذا الامتزاج والتلاقح أكسبا الثقافةَ العربيةَ الإسلاميةَ غِنَى وقوّةً ومناعة، وهي خاصيةٌ فريدة وميزة تكاد أن تكون فريدة في التاريخ الثقافي الإنساني، موضحاً أن مصدر هذا التنوّع الذي يطبع الثقافة العربية هو من طبيعة المبادئ التي تقوم عليها والمستمدّة أساساً من جوهر الرسالة الإسلامية التي من خصائصها الترغيبُ في طلب العلم، والحثُّ على النظر والتفكير، والحضُّ على التماس الحكمة من أي وعاء أو مصدر كانت، والدعوةُ إلى التعارف بين الأمم والشعوب بما يقتضيه ذلك من تقارب بكل معانيه، إلى جانب النهي عن الإكراه في الدين، وهو المبدأ القرآني الذي يمكن أن يكون قاعدةً للتعايش الثقافي والفكري في إطار وحدة الأصل الإنساني، وهو المبدأ الأصيل الذي يختزل كلَّ معاني حرية الفكر وإعلاء شأن العلم والعلماء.
وخلص إلى أن ثمة ترابطاً وثيقاً بين الثقافة والهُويّة، فلا هوية بدون ثقافة تستند إليها، ولا ثقافة إذا لم تؤسّس للهُويّة، فالثقافة والهُويّة عنصران متلازمان من عناصر الذات، ومكونان متكاملان من مكونات الشخصية الفردية والجماعية.
وذكر أن اتجاهات العولمة تسير نحو التأثير السلبي على الهُويّة والسيادة معاً، وأن أول ما يثير الانتباه عند التأمّل في موقف الغرب من هُويّات الشعوب، هو جمعُه بين موقفين متناقضين؛ فهو من جهة، شديدُ الاعتزاز بهُويّته حريصٌ عليها، وهو من جهة ثانية، رافضٌ للاعتراف بالهُويّات الوطنية لشعوب العالم، لإحساسه بأن العولمة من شأنها أن تؤدي إلى مزيدٍ من الوعي بالخصوصية الثقافية والحضارية.
وقال المحاضر : « كلما جمعت أمة من الأمم بين المقامات الثلاثة : اللغة، والثقافة، والهُويّة في أنساق متجانسة، أمكن لها أن تصمد أمام كاسحات الهُويّات وماحيات الخصوصيات. فلن يؤدي التفريط في اللغة والإضرار بها والإعراض عنها، سوى إلى ضعف الثقافة وهزالها وعجزها عن مسايرة العصر والحوار مع الثقافات الإنسانية الأخرى, وهو الأمر الذي ينتهي إلى ضياع الهُويّة الذي هو ضياعٌ للشخصية، بل علينا أن نقول ضياعاً للسيادة الوطنية».
وأكد أن الترابط بين اللغة والثقافة والهُويّة الذي يقوم على أساس من التجانس والتناغم، هو حجر الزاوية في بناء الشخصية السوية، وأن المزاوجة بين هذه المقومات الثلاثة الثابتة من منطلق التفعيل والإبداع وحسن التصرف، هي الوسيلة الناجعة للحفاظ على الهُويّات الثلاث : الهُويّة اللغوية، والهُويّة الثقافية، والهُويّة الحضارية.
واختتم الدكتور عبد العزيز التويجري محاضرته بقوله : (ليس في هذا انغلاقٌ على الذات، ولا تقليلٌ من أهمية الاِنفتاح على اللغات والثقافات العالمية، فذلك ضرورة حياتية، ومصلحة ظاهرة لا مناص من أخذها في الاعتبار، بل والحرص على التمكّن منها وتوظيفها لتطوير الثقافة وإغنائها، وتوسيع مجالات المعرفة، بما يحقق النموّ والازدهار لمجتمعاتنا في إطار المعادلة الذهبية : التمسّك بالأصل والانفتاح على العصر. فبذلك سادت أمتنا في عصور الازدهار الحضارية، وكانت رائدة العلم والإبداع، وجديرٌ بها اليوم أن تجـدّد بناء كيانها الحضاري، وتساهم في صنع عالمٍ إنسانيٍّ أكثر عدلاً وأمناً وسلماً).