طباعة
sada-elarab.com/689392
في إحدى سفارتي الأخيرة نزلت في أحد الفنادق الجميلة، وعندما دخلت الغرفة المخصصة لي كعادتي أبحث عن الورق الذي احتاجه إلى الكتابة، وكذلك أبحث عن القلم الذي به أدوِّن خواطري أو ملاحظاتي، فلم أعثر على الورق ولم أعثر على القلم، وحسبت للوهلة الأولى أنه ربما المسؤولين عن تنظيم الغرفة نسوا هذه الأدوات الضرورية التي اعتدنا عليها، ولما سألت عن ذلك من القسم الخاص بخدمات الغرف، قالوا نحن لم نعد نزوّد الغرف بهذه الخدمة، وإذا أردت نستطيع أن نوفرها لك، وبعد استفسار من الزملاء في السفر عن عدم توفر ذلك في غرفنا أدركت أن جيلي من هؤلاء الزملاء افتقدوا ذلك بالفعل في غرفهم، وحينها أدركت أن التقنية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي والهواتف النقالة قد أخذت المكان الحقيقي للقلم والأوراق، وأصبح الهاتف النقال بوسائله المتعددة هو البديل عن القلم، وعلينا أن نتعايش مع هذه الأدوات، فقد أصبحت هذه الأدوات الكتابية في خبر كان، وأصبح على جيلنا أن يعتاد على استخدام هذه الوسائل التقنية ويهجر القلم ربما إلى الأبد، تذكرت في هذه اللحظات كيف كنّا في مدارسنا الابتدائية نتعلم الكتابة بقلم الرصاص، وكانت مادة الخط من المواد الأساسية في تدريبنا على خطوط النسخ والرقعة والثلث وغيرها حتى إذا ما تقدمنا في مراحل التعليم الابتدائي بدأ المدرسون يطلبون منا أن نُحضر قلم الحبر مع المحبرة لنكتب دروسنا بقلم الحبر، وكان علينا أن نختار وقتها الأقلام الثمينة كالباركر والشيفر إلى أن جاء إلينا القلم الناشف، وما هو بناشف ولكن الحبر الذي فيه لا يحتاج إلى تعبئة، ويرمى عندما يجف بالفعل.
كانت رغبتي في الحصول على قلم باركر شديدة، وكنت أعلم أن والدي يرحمه الله سيسعى بعد أخذ راتبه من شركة النفط بابكو بإحضار قلم الباركر لي، وتأكيده على أهمية المحافظة عليه ومعه زجاجة الحبر المناسبة وكنت الحريص على المحافظة على القلم ولا أتركه في الصف أثناء الفسحة، ويومًا نسيت أن آخذ القلم معي، وعندما عدت من الفسحة إلى الصف لم أعثر على قلمي، وكان ذلك بالنسبة لي مصيبة فكيف أواجه الوالد يرحمه الله بهذا التقصير، وحرمت من اقتناء قلم آخر، وظليت أبحث عن من يا تُرى أخذ قلمي بالخطأ ولا يريد أن يعترف إلى أن حدث لأحد الزملاء نفس الموقف فقد سُرق قلم حبره من الصف، وبعد التحري عرفنا سارق أقلامنا وطلبت منه إدارة المدرسة إعادة الأقلام إلى أصحابها وكونه زميل دراسة ونعرف ظروف معيشته غفرنا له هذه الزلة، وتعهدنا بالتعاون مع بعض في توفير القلم الذي ينشده بطريق تضامني وتكاتفي.
كان للقلم هيبته، ويوضع في مكان بارز في ملابسنا في الدراسة والمناسبات، وكانت الأنواع متعددة ومتفاوتة الأسعار، وكان البعض يتهادى بالأقلام لأنها عنوان العلم والمعرفة، وأحيانًا رمزًا من رموز الثقافة. وكان الحرص على اقتناء الأقلام المعتبرة دليل تمكن من أدوات الكتابة والتعبير..
نحن جيل اعتدنا على الكتابة بالقلم ولا زلت وإلى اليوم أكتب مقالي بالقلم وأقدمه للطباعة على الكمبيوتر يساعدني في ذلك أحيانًا ابنتي ميساء ومديرة مكتبي إيمان أو أحد زملاء الإدارة علي بدر أحمد ممن يتبرعون بالكتابة، وأنا شاكر لهم هذا الصنيع، وأعلم أن مراجعة المقال تحتاج إلى تركيز مع التقدير الجم للأخوة المصححين اللغوين بالجريدة.
جيلنا هجر القلم وأصبحت أدواته المباشرة مع أجهزة الهاتف أو حروف الكمبيوتر لتسجيل خواطره، وأفكاره وهذا بطبيعة الحال يحتاج أيضًا إلى مهارة وخبرة وتجربة، علينا المثابرة والتدريب بما يعود علينا بالخير، وأي خطأ قد يجر على صاحبه الضرر.
هل آن لنا التخلي عن القلم في معاملاتنا اليومية؟! أو في تسجيل خواطرنا أو مراسلاتنا؟! وهل أصبح عنوان من يحمل القلم متأخرًا في مواكبة العصر وتقنياته.. إنها قيم مجتمعية فرضتها الحضارة المعاصرة وكنا في نقاش مع بعض الزملاء من أقطار مختلفة حول هذه الظاهرة، وكان الكل مُجمع على أن القلم لم يعد من ضروريات ومستلزمات الجيل الحاضر، فقد هجروا القلم وأصبحت تجارته على وشك الكساد، وقد أشار بعض الزملاء أن بعض الدول الأوروبية أدركوا خطورة هجر القلم وبدأوا يراجعون أنفسهم بضرورة الرجوع إلى القلم وتقنياته وما يشكله من ضرورة تسجيل وتدوين الأفكار، والتمرين المتقن لتسجيل الأفكار وتبادلها.
إننا في مرحلة من مراحل العمل أدركنا قيمة القلم والحبر بأنواعه في كتابة الوثائق والتقارير والدراسات التاريخية والعلمية والثقافية وباتت الكتابة بالقلم من المراجع المهمة في التوثيق والتأريخ وإيصال العلم لمن يطلبه، وتفنن الخطاطون وأصبحت لهم مهنة يقتاتون منها.
إنه العصر الجديد وما يفرضه من معطيات وسيظل التحدي ماثلاً بين من يتمسك بالقلم للتعبير عن مشاعره وبين من يتمسك بالتقنية كبديل عن القلم وسرعة الانتشار. نحتاج إلى إعادة النظر في كل معطيات العصر ونحتاج إلى المكاشفة والمصارحة وشخصيًا أدعو إلى التمسك بالقلم مع الأخذ بالاعتبار لوسائل الكتابة العصرية والمعتمدة على تقنية وسائل التواصل الاجتماعي، وهو تحدي العصر الذي نعيشه.
وعلى الخير والمحبة نلتقي