رئيس مجلس الإدارة
أمانى الموجى
رئيس التحرير
ياسر هاشم
ads
اخر الأخبار

اخبار

كلمة المستشار خالد القاضي في "ليلة في حب مصر"

السبت 31/يوليو/2021 - 11:58 م
صدى العرب
طباعة
صدى العرب
 استأثرت مصر كنانة الله في أرضه باهتمام الأنام والباحثين بدرجة تفوق أي بلد أخرى في الكون ،وتعددت الكتب والمؤلفات منذ القدم في ذكر فضائل مصر وألوان عظمتها ، وها هو عمر بن أبي محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي يؤلف كتاباً في القرن الرابع الهجري يذكر فيه مصر وما خصها الله به من الفضل والبركات والخيرات، على سائر البلدان أطلق عليه اسم " فضائل مصر المحروسة" يقول فيه: فضّل اللهُ مصرَ على سائر البلدان، كما فضل بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضل على ضربين: في دين أو دنيا، أو فيهما جميعا، وقد فضل الله مصر وشهد لها في كتابه بالكرم وعظم المنـزلة وذكرها باسمها وخصها دون غيرها، وكرر ذكرها، وأبان فضلها في آيات من القرآن العظيم، تنبئ عن مصر وأحوالها، وأحوال الأنبياء والأمم الخالية والملوك الماضية، والآيات البينات، يشهد لها بذلك القرآن، وكفى به شهيداً، كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في مصر وفي عجمها خاصة وذكره لقرابته ورحمهم ومباركته عليهم وعلى بلدهم وحثه على برهم ما لم يرو عنه في قومٍ غيرهم، كما خصها الله من الخصب والفضل وما أنزل فيها من البركات وأخرج منها من الأنبياء والعلماء والحكماء والخواص والملوك والعجائب بما لم يخصص الله به بلداً غيرها، ولا أرضا سواها ، كما أن منـزلتها ،ومنافعها في الحرمين لبينةٍ لأنها تميرهما بطعامها وخصبها وكسوتها وسائر مرافقها، فلها بذلك فضل كبير، ومع ذلك فإنها- حينئذ- تطعم أهل الدنيا ممن يرد إليها من الحاج طول مقامهم يأكلون ويتزودون من طعامها من أقصى جنوب الأرض وشمالها ممن كان من المسلمين في بلاد الهند والأندلس وما بينهما، لا ينكر هذا منكر، ولا يدفعه دافع، وكفى بذلك فضلا وبركة في دين ودنيا. 

    فأما ما ذكره الله عز وجل في كتابه من ذكر مصر. فقول الله تعالى: "وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة" وما ذكره الله عز وجل حكاية عن قول يوسف: " ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ " وقال عز وجل: "  اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ  " وقال تعالى: " وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ " قال بعض المفسرين: هي مصر. وقبط مصر مجمعون على أن المسيح عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام كانا بالبهنسا  وانتقلا عنها إلى القدس.


  فضائل مصر المحروسة :

وقال تعالى:"وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه". وقال تعالى:"وقال نسوة في المدينة أمرأت العزيز تراود فتها عن نفسه" والمدينة: منف، والعزيز ملك مصر حينئذ. وقال تعالى: ودخل المدينة على حين غفلةٍ من أهلها" هي منف، مدينة فرعون. وقال تعالى:"وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى" هي منف أيضاً وقال تعالى حكاية عن إخوة يوسف:"يأيها العزيز" وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام:"وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو" فجعل الشام بدوا، وقال تعالى حكاية عن فرعون وافتخاره بمصر: "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتي" وقال تعالى حين وصف مصر وما كان فيه آل فرعون من النعمة والملك بما لم يصف به مشرقا ولا مغربا، ولا سهلا ولا جبلا، ولا برا ولا بحرا: "كم تركوا من جناتٍ وعيونٍ وزروعٍ ومقامٍ كريمٍ ونعمةٍ كانوا فيها فاكهين" فهل يعلم أن بلداً من البلدان في جميع أقطار الأرض أثنى عليه الكتاب بمثل هذا الثناء، أو وصفه بمثل هذا الوصف، أو شهد له بالكرم غير مصر؟ وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ستفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا، فإن لكم منهم صهرا وذمة". وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما". فأما الرحم، فإن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام من القبط من قرية نحو الفرما يقال لها: أم العرب. وأما الذمة: فإن النبي صلى االله عليه وسلم، تسرى من القبط مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من قرية نحو الصعيد، يقال لها حفن من كورة أنصنا، فالعرب والمسلمون كافة لهم نسب بمصر من جهة أمهم مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، والقبط أخوالهم. وصارت العرب كافة من مصر، بأمهم هاجر؛ لأنها أم إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وهو أبو العرب. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ستكونون أجنادا، وخير أجنادكم الجند الغربي، فاتقوا الله في القبط: لا تأكلوهم أكل الخضر". وروى عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض". قيل: ولم ذلك يا رسول؟ قال:"لأنهم في رباط إلى يوم القيامة.

دعاء الأنبياء لمصر وأهلها وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جماعة من الملوك منهم هرقل، فما أجابه أحد منهم، وكتب إلى المقوقس صاحب مصر فأجابه عن كتابه جواباً جميلا، وأهدى إليه ثياباً وكراعاً وجارتين من القبط؛ مارية وأختها وأهدى إليه عسلا فقبل هديته، وتسرى مارية، فأولدها ابنة إبراهيم، وأهدى أختها لحسان بن ثابت فأولدها عبد الرحمن بن حسان. وسأل عليه الصلاة والسلام عن العسل الذي أهدى إليه، فقال من أين هذا؟ فقيل له من قرية بمصر يقال لها بنها، فقال:"اللهم بارك في بنها وفي عسلها" فعسلها إلى يومنا هذا خير عسل مصر. وروى عن عبد الله بن عباس أنه قال: دعا نوح عليه السلام ربه، لولده وولد ولده: مصر بن بيصر بن حام بن نوح، وبه سميت مصر، وهو أبو القيط فقال: اللهم بارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة التي هي أم البلاد وغوث العباد، ونهرها أفضل أنهار الدنيا واجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الروض، وذللها لهم، وقواهم عليها. والكعبة: البيت الحرام، وهو بيت هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام اللذين كانا يسكنانه، وروى أن البيت هدم في الجاهلية فولت قريش بناءه رجلا من القبط يقال له: بقوم، فأدركه الإسلام وهو على ذلك البناء.

  من صاهر القبط من الأنبياء وصاهر القبط من الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، بتسريه هاجر أم إسماعيل عليهما السلام. ويوسف بتزوجه بنت صاحب عين شمس التي ذكرها الله في كتابه، فقال تعالى:"وغلقت الأبواب وقالت هيت لك" ومحمد صلى الله عليه وسلم بتسريه مارية. 

من ذكرهم الله تعالى في كتابه من أهل مصر:
ممن ذكرهم الله تعالى في كتابه من أهل مصر، رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه. قال تعالى:"وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم".

ومنهم قارون، وكان ابن عم موسى: قال الله تعالى:"وأتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة". وقال عز وجل:"فخرج على قومه في زينته". وكان قارون أيسر أهل الدنيا. ومنهم: هامان، قال تعالى:"وقال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إلهٍ غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً". ومنهم فيما يقال: الخضر عليه السلام، وروى بعض أهل العلم أنه ابن فرعون موسى لصلبه، وكان آمن بموسى، وجاز البحر معه، وكان مقدما عنده، وكان نبياً. ومنهم: وزراء فرعون وجلساؤه، ذكر الله تعالى عنهم في كتابه حسن المحضر ورجاحة العقل، قال تعالى حكاية عن فرعون:"قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحارٍ عليم". فهل في الدنيا جلساء ملك أرجح عقلا واحسن محضرا منهم؟ حيث أنصفوا، وأمروا أن يمتحن بمثل ما وقع لهم أنه يشبه ما جاء به، ولم يكونوا في المنـزلة وقبح المحضر كوزراء نمرود، حين شاورهم في إبراهيم عليه السلام. قال تعالى حكاية عنهم:"قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين". ذكر الله عز وجل ذلك عنهم في كتابه العزيز. ومنهم: السحرة الذين تجمعوا لموسى حين رأوا آيات موسى لم يصروا على الكفر، ولم يلبثوا أن آمنوا وسجدوا لله عز وجل. قال تعالى في كتابه: فألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ..وفي آيات كثيرة كرر ذكرهم وأثنى عليهم. "فاقض ما أنت قاضٍ إنما تقضى هذه الحياة الدنيا". ..وروى أن عبد الله بن عمر قال: القبط أكرم الأعاجم محتداً، وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً، وأقربهم رحماً بالعرب كافة، وبقريش خاصة. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مصر أطيب الأرضين ترابا، وعجمها أكرم العجم أنسابا". 

  وقد ظهر بمصر من الحكماء والأدباء والبلغاء والعلماء في شتى ألوان العلوم والمعارف والفنون والآداب  ..    

من كان بمصر من الأنبياء وأما من كان بها من الأنبياء عليهم السلام، فإبراهيم الخليل، وإسماعيل ويعقوب، ويوسف. واثنا عشر نبياً من ولد يعقوب وهم الأسباط وموسى وهارون ويوشع بن نون، وعيسى بن مريم، ودانيال، عليهم الصلاة والسلام.

  من كان بمصر في الإسلام من الصحابة وأما من كان بها في الإسلام من الصحابة والفقهاء والعلماء والأحبار والزهاد ومن دخلها من الملوك والخلفاء وأهل العلم والشعر والنحو والخطابة، وكل من برع على أهل زمانه، أو نجم على أهل عصره، فيتسع ذلك علينا..

  وكان بمصر من الفقهاء والعلماء  والزهاد والشعراء خلق لا يحصون كثرة.. 

من دخل مصر من الخلفاء ودخلها من الخلفاء معاوية، ومروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، ومروان بن محمد، والسفاح، والمنصور، والمأمون، والمعتصم، والواثق. 

ذكر مصر وفضلها على غيرها من الأمصار :

وأما ذكر مصر وفضلها على غيرها من الأمصار وما خصت به وأوثرت به على غيرها، فروى أبو بصرة الغفاري قال: مصر خزانة الأرض كلها، وسلطانها سلطان الأرض كلها، قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام. "قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم". ولم تكن تلك الخزائن بغير مصر، فأغاث الله بمصر وخزائنها كل حاضر وباد من جميع الأرض. وجعلها الله تعالى متوسطة الدنيا،. وقال سعيد بن أبي هلال: مصر أم البلاد، وغوث العباد.. وقال عمرو بن العاص: ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة. وأجمع أهل المعرفة: أن أهل الدنيا مضطرون إلى مصر يسافرون إليها، ويطلبون الرزق فيها... وروى عن شفي بن عبيد الأصبحي، أنه قال: مصر بلدة معافاة من الفتن لا يريدهم أحد بسوء إلا صرعه الله، ولا يريد أحد هلكهم إلا أهلكه الله .. 

كور(مدن) مصر وبمصر ثمانون كورة، ليس منها كورة إلا وفيها طرائف وعجائب من أصناف البر والأبنية والنتاج والشراب والطعام والفاكهة وجميع ما ينتفع به الناس، ويدخره الملوك، يعرف كل صنف من كورته، وينسب كل لون إلى كورته،... وفي كل كورة من مصر مدينة، قال تعالى "وابعث في المدائن حاشرين".

وفي كل مدينة منها آثار عجيبة من الأبنية والصخور والرخام والبرابي، وبها الأهرامات والسواري والمسلات، وعجائبها وآثارها أكثر من أن تحصى .

 ولقد عد جماعة من أهل العقل والمعرفة مرافقها وخيرها فإذا هي لا تحصى، فتركوا ذلك وعدوا ما فيها من المباح مما ليس عليه ملك لأحد من مسلم ولا معاهد يستعين به القوي والضعيف فإذا هو فوق السبعين صنفاً. ومنها مدينة منف، وأبنيتها وعجائبها وأصنامها ودفائنها وكنوزها أكثر من أن تحصى، لا يدفع ذلك دافع، ولا ينكره منكر، من آثار الملوك والحكماء والأنبياء. 

خراج مصر: 

 وأما خراجها فجباها عمرو بن العاص أول سنة فتحها عشرة آلاف ألف دينار، وكتب إليه عمر بن الخطاب يعجز رأيه ويقول: جبيت للروم عشرين ألف ألف دينار، فلما كان في العام المقبل جباها اثني عشر ألف ألف دينار، فلما عزل عثمانُ عمْراً منها، وولي عبد الله بن أبي سرح، زاد على القبط في الخراج والمؤن، فبلغت أربعة عشر ألف ألف دينار.

مناظر مصر وجمالها .. وأما ما يعجب من رونق منظرها، فذكر عن كعب الأحبار أنه قال: من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة، فلينظر إلى مصر إذا أخرفت وإذا أزهرت، وإذا اطردت أنهارها، وتدلت ثمارها، وفاض خيرها، وغنت طيرها. وعن عبد الله بن عمرو قال: من أراد أن ينظر إلى الفردوس فلينظر إلى أرض مصر حين تخضر زروعها، ويزهر ربيعها، وتكسى بالنوار أشجارها وتغنى أطيارها.    ذكر ما ورد في نيل مصر وأما نيلها، فروى ابن لهيعة: أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب: أسألك بالله العظيم يا كعب، هل تجد لنيل مصر في كتاب الله خبراً؟ قال: إي والذي فلق البحر لموسى عليه السلام! إني لأجد في كتاب الله عز وجل أن الله يوحى إليه عند جريه: إن الله يأمرك أن تجري كذا وكذا، فاجر على اسم الله، ثم يوحى إليه عند انتهائه: إن الله يأمرك أن ترجع، فارجع راشداً. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أربعة أنهار من الجنة سيحان وجيحان والنيل والفرات". ...

  الخواص والعجائب التي بمصر :

وأما الخواص التي بها والعجائب والبركات والحكم، فجبلها المقدس، ونيلها المبارك، وبها الطور حيث كلم الله تعالى موسى، وبها الوادي المقدس، وبها ألقى موسى عصاه، وبها فلق البحر لموسى، وبها ولد موسى وهارون وعيسى عليهم السلام. وبها من الأبنية وآثار الحكمة: البرابي والهرمان، وليس على وجه الأرض بناء باليد حجراً فوق حجر أطول منهما ا. وبها منارة الإسكندرية، وبها عمود عين شمس. .. وبها مجمع البحرين، وهو البرزخ الذي ذكره الله تعالى فقال:"مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان". 


النيل حياة نهر

تأليف : إميل لودفيج 

 ترجمة للعربية : عادل زعيتر

 

     كتبتُ وترجمتُ، وكلما كتبتُ سيرة رجل وترجمت عنه تَمَثَّل لي مجرى نهرٍ ومصيرُه، ولم يبدُ لي وجود نصيب بشري لنهر وصورة إنسان له غيرَ مرةٍ واحدة، فلما أبصرتُ سد أسوان العظيم للمرة الأولى في نهاية سنة ١٩٢٤ كان للمعنى الرمزيِّ الذي فَرَضَه عليَّ من السلطان الكبير ما ظننتُني معه هنالك، في ذلك المحلِّ الفاصل من المجري، مدركًا لحياة النيل من منبعه إلى مصبِّه، وترى للطبيعة في ذلك المكان قوةً أولية سيطر الإنسان عليها بذكائه فحوَّل الصحراء إلى أرض خصيبة محقِّقًا ما حاوله الدُّهريُّ فاوْست وعده أرفعَ عملٍ للرجل، وما لاح لعينيَّ في أسوان من ذكرى لخاتمة فاوست هذه أوحى إليَّ برغبة في كتابة قصة النيل كما أكتبُ قصة العظماء.

ولكنني قبل أن أقصَّ نبأ مغامراته وأُبدِيَ عميق مخاطراته أرى سَبْر غوره توكيدًا لبصري أو تقويمًا لنظري، وقد عرفت أجزاءَ أفريقية الأخرى منذ زمن، وأفريقية مما أحببتُ، وأفريقية مما جَلب السعادة إليَّ، وفي المنطقة الاستوائية وفي منبع النيل كنت قبل الحرب العظمى، وعليَّ أن أدرس النيل عن كَثَبٍ ليظهر لي أنه أبهرُ الأنهار طُرًّا.

والنيل أكثر الأنهار طولًا، وليس النيل أغزرَ الأنهار ماءً، وفي هذا سر حياته وحياة ما يُبَلله من بقاع، والنيل يجوب صحارِيَ وفَلَواتٍ، ولا ينال النيل روافد ولا غَيْثًا في شطر من مجراه، ولا يَنْقُص النيل بذلك، ويُوجِدُ أخصبَ الأرَضين في نهاية أمره مع ذلك، وعلى ما يُبَدِّدُه النيل من أدقِّ قُوَاه في فَتَائه على ذلك الوجه تُبْصِره مهولًا في مصبِّه، وعلى ما يدلُّ عليه طولُه من سدس محيط الأرض تراه أبسط الأنهار شكلًا، فهو يجري من الجَنوب إلى الشمال توًّا مُحْدِثًا عطفةً وحداة فقط، وهو لم ينحرف غيرَ أربعمائة كيلومتر من طوله البالغ ستة آلاف كيلومتر، ويقع مصبُّه ومنبعه على درجة واحدة من الطول تقريبًا.

ويشتمل حوض النيل على أعظم بحيرة في نصف الكرة الأرضية الشرقي وعلى أعلى جبال قارَّته وأكبرِ مدنها، ويعمر ضفافَ النيل أكثرُ طيور النصف الشماليِّ من الكرة الأرضية وجميعُ ما في الفردوس من حيوانٍ ونبات يَتَرَجَّح بين نوامي الألب وغياض البلاد الحارة وغِرَاس البطائح والغُدران، وزرع السهوب والفيافي وأغنى ما في الدنيا من الأطيان، ويُطْعِم وادي النيل مئات العروق ويقوت أناسيَّ من الجبال والمناقع ومن العرب والنصارى ومن أَكَلَة لحوم البشر ومن ذوي الطول والقِصَر، وما بين الناس من اصطراعٍ في سبيل الثراء والسلطان وفي سبيل العادات والإيمان وفي سبيل هيمنة اللون يُمكِن تَتَبُّعُه هنا لمدة ستة آلاف سنة خَلَتْ؛ أي لمدةٍ أطوَل مما في أيِّ مكان لتاريخ البشر.

ولكن أَعْجَبَ ما وجدتُ في تلك الظاهرات التي تتجلَّى فيها قدرةُ الطبيعة وعمل مخلوقاتها وجهود الناس والزراعة والنبات والحيوان والأمم وتاريخها هو أنها ما كانت لِتُوجَد لولا النهر، أو كانت تُوجد على خلاف ما هي عليه بغير النهر.

بَدَا النيلُ لي كائنًا حيًّا يَقُوده قَدَرٌ مرهوب نحو استعباد محتوم بعد ظهور نضيرٍ، ولاح النيلُ لي كعظماء الرجال فأردتُ أن أستنبط من طبيعته تسلسلَ حوادث حياته المقدَّر فأبنتُ كيف أن الوليد - وهو يتفلَّت من الغابة البِكر - ينمو مصارعًا ثم تَفتر همَّته ويكاد يَنْفَد ثم يخرج ظافرًا، وكيف أن أخاه القَصِيَّ المقحام يُهرَع إليه ليزلِقا معًا من خلال الصحراء ويصاولا الصخر، والنيلُ في تمام رُجُولته يقاتل الإنسانَ فيُقهَر ويُروَّض ويوجب سعادةَ الآدميين، ولكن النيلَ قَبْلَ ختام جِرْيته يسبِّب من المآسي أكثرَ مما في شبابه الوحيش.

ويكون تأثير البيئات في النيل شديدًا في البُداءة شدةَ تأثُّر الصبا والفَتَاء بالطبيعة والمحيط، فإذا مضى حينٌ عَمِلَتْ مكافحتُه الإنسان عَمَلَها فيه وساقته، ويجاوز النيلُ دورَ البساطة الأولية في الكون إلى دَور النور المعقَّد في التمدن الحديث فيُبصر مبدأ قاهريه الأكبر في خَطَر، ويُتعِبه طمعُ الناس في المال فيقذِف نفسَه في البحر ليجدِّد ببعثٍ خالد.

وفي الغالب تَجِدُ وثائق حياة كلِّ نهر في المؤلَّفات العلمية أو في كتب السياحة حيث يسافر الكاتب مع القارئ، ويتضمَّن الوجهُ الوصفيُّ الجديد الذي هَدَفْتُ إليه طِرازًا آخر في جمع الوقائع، فقد أمسكتُ النهرَ في مراكز مجراه الحيوية الخمسة كما صنعتُ في تراجمي السابقة: أمسكتُ به في بحيرة ألبرت (مَرَّتين) وفي بحيرة نُو وفي الخُرطوم وفي أسوان وفي القاهرة، وقد نويت وصف حياةٍ، لا كتابةَ دليلٍ، فلا أَسِيح مع القارئ على النهر، ولا أقصُّ مغامراتي بل أقص مغامراتِ النيل، والنيلُ سائحًا هو الذي يَفْتِن مصيرُه أفئدتَنا أجمعين.

ومن العبث أن يُبْحَث في هذا السِّفر عن جغرافيةٍ كاملة لبِقاع النيل الأربع أو عن تاريخٍ جامع لها، أو عن مَعْلَمَةٍ  للشعوب والحيوان والنبات، وتُبصر في هذا السِّفْر نبذًا تُقَصَّر بلا انقطاع اجتنابًا لِعَوْق النهر عن جَرْيه، وتُبْصِر في هذا السِّفر إعراضًا عن حياةِ كاشفي منبع النيل الروائية مع احتمال بيانها ذاتَ يومٍ على انفراد.

وقد اقتُطع وصف مجرى النيل من منبعه إلى مَصَبِّه بفصولٍ تاريخية تَشغَل ربعَ النصفِ الأول من هذا الكتاب ونصفَ الشَّطر الثاني منه؛ وسبب هذا التفاوت في التوزيع هو عدم وجود تاريخ للنيل الأعلى تقريبًا ووفرةُ معارفنا عن النيل الأدنى.

وكما رأيتُ فُيُولًا وأسودًا على ضفاف النيل الأعلى، وجِمَالًا وحميرًا على ضفاف النيل الأدنى، تَرِدُ للشُّرْب مساءً أبصرتُ موكِبًا متصلًا لأشباح أولئك الذين عاشوا وسيطروا وأَلِمُوا هنالك، وأبصرتُ تنازع الأديان والعروق في صحارى السودان وسهوبه، وفي مصرَ التي هي مصدر الإنسانية في الغرب.

وفي هذا الكتاب - كما في سِيَري الأخرى - لم آلُ جُهدًا في كَتْم المصادر التي رجعتُ إليها تحقيقًا لانطباعاتي وإمعانًا فيها، وذلك لعَدِّي إظهارَ الذي أَرَى في رمزٍ وإظهارَ الرمز في حادث منظور أهمَّ من جمع التواريخ والأسماء التي يُمكِن كلَّ واحدٍ أن يَجِدَها في المراجع الخاصة، وفي هذا السِّفْر، كما في سواه، لم أدَّخر وُسعًا في تلوين ما يُعَبِّر المتخصصُ عنه بالأرقام والجداول، وفي هذا السفر لم أرغب في وصف ما يُحَدَّث عنه في الغالب، بل عملتُ على وصف ما يَقِفُ الأبصارَ ثم على تسميته، وفي الدرجة القُصوى من الفصل الثالث فقط؛ أي في طَوْر الأسداد الجازم من تلك الحياة، اضطُررت إلى ذكر أرقام قليلة ذكرًا مضبوطًا معتذرًا إلى القارئ، وهذا إلى أنني حَوَّلت كسور الأرقام إلى أصفار عند الضرورة، لما في اﻟ «964 كيلومترًا بين بحيرة نُو والخُرطوم» مَثَلًا من وَقفٍ للنظر أقلَّ من اﻟ «1000  كيلومتر بينهما»، وكذلك لم تُسَوَّ كتابةُ الأسماء الأفريقية في اللغات الأوروبية تمامًا.

ولم تُوضَع الطبيعة والتاريخ في النصف الثاني من هذا الكتاب على المستوى الذي اتفق لهما في النصف الأول منه، ولا غَرْوَ، فالنهر في فَتَائه، كالإنسان في شبابه، يُردِّد مؤثِّرات البيئة التي أوجدته، على حين ترى النهر في كهولته يكافح تطاول العالَم الخارجي بسجيَّته، وللإقليم والبلد تأثيرٌ عظيم في رَيْعان الشباب، ثم يبدو تأثيرُ الإنسان، وتقضي الضرورة بتحويل الخطة أكثرَ من قَبل عند تناول نهر يَجُوب في شَبابه من البِقاع ما لا تَرَى له تاريخًا ويَجرِي في مَشِيبه من أقدم بلاد الدنيا تَمَدُّنًا، وتُبصر لمصرَ ستةَ آلاف سنة تاريخًا، ولا تكاد تجد لأُوغندة والسودان من التاريخ قرنًا، وهكذا نُخَصِّص ثلاثةَ أرباع النصف الأول من الكتاب للطبيعة ونُخَصص ربعًا منه للتاريخ، مع أن نصيب الطبيعة هو نصف الشطر الثاني منه، وذلك لِمَا بين أسوان والدِّلتا من اختلافٍ قليل في المنظر والنبات والحيوان.

ومع ذلك تُعَالَج الأقسام التاريخية من نصف الكتاب الخاصِّ بمصر في كلماتٍ جوامعَ ما لم تعارِض موضوع الجميع، والأوصاف تحتلُّ مكانَ الأفكار كما في تراجمي السابقة، والأحوالُ الاجتماعية في هذه الأوصاف تفضُل الحروبَ صدارةً، ومشاعرُ الناس فيها تَفُوق شأنهم أهميةً، وهكذا يُعطَف في النصف السوداني عند الوصف على مشاعر الزنجي أو الفيل أكثر مما على الإنسان الأبيض، وهكذا يحاوَل إبراز التاريخ في مصرَ من حيث مقامُ الفلاح الذي عاش أوثقَ عِشرةً للنيل في كل زمن من عشرة ذوي الحكم، لا كما نَظَرَ إليه الملوكُ والفراعنة والسلاطين؛ وذلك لأن مصرَ هي بلدُ الدنيا الوحيدُ الذي يقضي كل ساكنٍ حياته فيه تَبَعًا للنهر في أيِّ وقت كان؛ وذلك لأن الأُسَر المالكة تأتي وتستغلُّ النهر وتزول، ولكن النهر، ولكن أبا البلد هذا، هو الذي يظلُّ باقيًا، وكان للنيل، كان لمولِّد الماء والحبِّ هذا، من الشأن منذ ستين قرنًا ما له في دور الأسداد والقطن الحاضر، ولم نألُ جُهدًا في وصف الأديان والمعابد والمساجد مُظْهِرين تأثيرها في الفَلَّاحين، ومن الفلاحين يتألف شعبُ النيل الأدنى.

ومن ناحيةٍ أخرى أرى الشعوب المختلفةَ ألوانًا ذات أهميةٍ في زمن تُعَدُّ فيه لتمثيل دورٍ جديد في حياة النوع البشري، والنيل قد أثَّر في جميع هذه الأمور، وجميعُ هذه الأمور قد أثَّرَت في النيل، ويقوم عملي الوحيد على إظهار الرمز الأكبر الذي يُستخلَص مما يَحُفُّ بالنيل من قَدَر.

لودفيغ
موشيا، سنة  193

قال الشعراء في حب مصر

قال الشاعر أحمد شوقي في حبّ مصر في قصيدة بني مصر : 

بني مصرٍ مكانكموُ تهيَّا 

            فَهَيَّا مَهدُوا للمُلكِ هيَّا 

خذوا شمسَ له حليَّا 

                 أَلم تَكُ تاجَ أَوّلِكم مَلِيَاً؟! 

على الأخلاقِ الملكَ وابنوا 

                فليسَ وراءَها للعِزِّ رُكن 

أليس لكم بوادي النِّيل عدنُ 

              وكوثرها الذي يجري شهيّاً؟! 

لنا وطنٌ بأَنفسِنا نَقيه 

            وبالدُّنيا العريضة ِ نَفتديه 

إذا ما سيلتِ الأرواحُ فيه 

          بذلناها كأنْ لم نعطِ شيَّاً 

لنا الهرَمُ الذي صحِبَ الزمانا 

         ومن حَدَثانِه أَخذ الأَمانا 

ونحنُ بنو السَّنا العلي ، نمانا

          أَوائلُ عَلَّموا الأُمَمَ الرُّقِيا

 تطاولَ عهدهمْ عزا وفخراً 

فلما آل للتاريخ ذُخْراً نشأنا نشأة ً في الجدِ أخرى

 

  

ويقول شوقي في قصيدة أخرى ، وهو في المنفي 

يا ساكني مِصرَ إنّا لا نَزالُ على 

                       عَهْدِ الوَفاءِ وإنْ غِبْنا مُقِيمِينَا 

هَلاَّ بَعَثتُمْ لنا من ماءِ نَهرِكُمُ

                       شيئاً نَبُلُّ به أَحْشاءَ صادِينَا 

كلُّ المَناهِلِ بَعدَ النِّيلِ آسِنَة ٌ

                     ما أَبْعَدَ النِّيلَ إلاّ عَنْ أَمانِينَا    


قصيدة لحافظ ابراهيم في حب مصر : 

 كم ذا يُكابِدُ عاشِقٌ وَيُلاقي في حُبِّ مِصرَ كَثيرَةِ العُشّاقِ 

إِنّي لَأَحمِلُ في هَواكِ صَبابَةً يا مِصرُ قَد خَرَجَت عَنِ الأَطواقِ 

لَهفي عَلَيكِ مَتى أَراكِ طَليقَةً يَحمي

إرسل لصديق

ads
ads

تصويت

هل تؤيد تكثيف الحملات الأمنية بمحيط الأندية ومراكز الشباب لضبط مروجى المخدرات؟

هل تؤيد تكثيف الحملات الأمنية بمحيط الأندية ومراكز الشباب لضبط مروجى المخدرات؟
ads
ads
ads

تابعنا على فيسبوك

تابعنا على تويتر

ads
ads
ads