فن وثقافة
محمود عبد العزيز: «التعويذة الغامضة» على جدران «الفن» و«الحياة»
الثلاثاء 17/نوفمبر/2020 - 06:03 م
طباعة
sada-elarab.com/553044
من السذاجة عندما أتحدث عن النجم الراحل محمود عبدالعزيز، أن أتحدث عما هو معلوم عنه، من أعمال فنية محفورة على جدران معابد الفن المصرى، ولكن سأروى عن الإسكندرية التى انطلق منها، وعاد إليها فى نهاية المطاف فى مقابر "أم كبيبة" بمنطقة الورديان مسقط رأسه، بجوار قبر والده، وكأنه أراد أن يحتمى بدفء أبيه فى الممات، مثلما احتمى به لحظة المجىء إلى الحياة.
من حظى الجيد، أن جدّى لأبى كان يسكن فى الورديان، فى نفس المربع السكنى الذى كان يعيش فيه "الساحر"، وروى لى والدى حكايات عنه فى شبابه، أهمها أن غالبية أهل المنطقة كانوا يعانون من فقر مدقع، وكانت الثياب المرقعة، منتشرة بين شباب المنطقة، بينما محمود عبدالعزيز، كان يرتدى أفضل الثياب، فكان مشهوراً فى المنطقة بهذه الأناقة المعهودة، ووسامته المميزة، وكأن الشهرة كانت مكتوبة عليه منذ البدايات.
وكان يقف "الساحر الشاب" مع أحد أصدقائه على ناصية أحد الشوارع، ليراقب البنات وهو يرتشف السيجارة بـ"كبرياء" ليرضى غروره عندما يرى البنات تتهامسن عليه، ولم يكن يعلم وقتها أن الأيام تخبئ له عشقاً متناهياً من ملايين المصريين، رجالا ونساء. وكاد أن يتعرض "محمود" للضرب أكثر من مرة بسبب علاقاته مع بنات المنطقة، الذين كن يتهافتن عليه، فقد كان "دونجوان الورديان" بمعنى الكلمة.
ورغم عشق بنات الحى له، إلا أن الشباب كانوا يشتاطون منه غيظاً، بفعل الوسامة والأناقة فى زمن كانت تسود فيه "الملابس المرقعة". ورغم أن والد "محمود" كان بإمكانه أن يشترى بيتاً فى مكان راقٍ، غير أن انتماءه لحى الورديان، أكبر من أن تخطر مثل هذه الفكرة فى رأسه.
ورغم أن "الساحر المراهق" كانت تصرفاته يكسوها الغرور، غير أنه لم يكن "فرفور"، بل كان يملك الطباع الشعبية بكل جوانبها، وشراستها.
وذات يوم عنّفه والده بسبب "تكبّره" على أهل المنطقة (بعد شكوى من أحد أهالى المنطقة)، وطلب منه أن يندمج مع شباب المنطقة، وبالفعل بدأ "الساحر المراهق" الاندماج مع شباب المنطقة، وظهرت خفة ظله وعشقه للسخرية.
وكان يقوم بتوصيل الشيخ "جلال" الأعمى إلى المسجد، هذا الشيخ "الساخر" و"الساخط" على الحياة، والذى كان يطلب من محمود أن يصف له ما يحدث فى الشارع، فكان يقول له: "عمى فلان وعمى فلان قاعدين ع القهوة بيلعبوا طاولة".. فرد عليه الشيخ جلال قائلاً: "طاولة عليك وعلى اللى جابك يا ولد.. اوصفلى الحريم اللى فى الشارع".
فنظر إليه "الساحر المراهق" باستغراب: "يا شيخ انت رايح تصلى.. أوصفلك حريم ازاى.. كده هتاخد ذنوب".
فرد الشيخ عليه قائلاً: "يا واد أنا أعمى.. يعنى مش هاغضب ربنا بالنظرات.. انت اللى هتبص وتوصفلى.. يعنى انت اللى هتغضب ربنا مش انا.. واللا إيه يا واد؟"
محمود: يعنى أنت كده يا شيخ بتورطنى انا مع ربنا؟
الشيخ جلال: إنت عارف يا واد يا محمود.. أنا كان نفسى أبقى مفتح عشان أشوف خالتك حليمة.
محمود: بقا عاوز تفتح عشان تشوف مراتك؟
الشيخ: عشان شاكك انها راجل.. وهمّ استعمونى فى الجوازة دى.
وتقمص "الساحر" شخصية "الشيخ جلال" فى فيلم "الكيت كات" عندما كان يؤدى دور "الشيخ حسنى".
والطريف أن محمود كان له صديق فى الورديان "صوته أجش" كان يتمنى أن يصبح مطرباً، وكانوا يسخرون منه، وتقمص شخصيته أيضاً فى فيلم "الكيف".
ورغم وسامته، والانطباع الشخصى عنه بأنه راقى الطباع، غير أن "الساحر" كان لديه مخزون من الطباع الشعبية، واسكندرانى بمعنى الكلمة، خاصة أنه كان يعيش قريباً من الميناء، ويعشق رؤية السفن الضخمة وهى تقترب من المرسى، وكأنه يرى الأحلام البعيدة، وهى تقترب منه.
وتشبّع "محمود" من رائحة البحر، وأصبحت شخصيته "متقلبة" كـ"أمواج البحر"، وصار "هوائياً" لأبعد الحدود، ومتقلب المزاج، ويميل للسخرية.
وتسببت شخصيته الهوائية "متقلبة المزاج"، ورغبته فى خوض المغامرة غير المحسوبة أحياناً، إلى رفع اسمه من خارطة نجوم الشباك فى السينما مع عادل إمام وأحمد زكى، بعد أن ورط نفسه، فى مجموعة من الأفلام التى فشلت جماهيرياً بسبب اتساع "الحيز الغامض" فيها، وأبرزها (زيارة السيد الرئيس 1995) (البحر بيضحك ليه 1995) (الجنتل 1996) (القبطان 1997) (هارمونيكا 1998)، وعندما حاول محمود عبد العزيز، استرداد مكانته الجماهيرية والعودة إلى نجومية الشباك من خلال فيلم "الساحر /2001" كان الجيل الجديد محمد هنيدى ورفاقه، قد نجحوا فى تغيير خارطة نجومية الشباك، لدرجة أن عادل إمام نفسه لم يعد رقم واحد فى الإيرادات.
كان يخشى محمود عبدالعزيز، الاقتراب من منطقة "الآراء السياسية" الشخصية، ويعتبرها "خطراً مميتاً" على الفنان، ويضع تجربة صلاح السعدنى أمام عينيه، الذى دفع ثمناً باهظاً بسبب آراء شقيقه الأكبر الكاتب محمود السعدنى، والتى عطلت قطار نجوميته كثيراً.
و لعب "الساحر" دور "كلمة السر" فى امتناع عمرو دياب، عن التمثيل، عقب فيلم "ضحك ولعب وجد وحب"، عندما التقيا فى إحدى المناسبات، وقال لـ"الهضبة": "يا عمرو أنت على قمة الغناء المصرى والعربى.. فبلاش تنزل تلعب فى مجال تانى مش هتبقى القمة فيه.. ركز فى مجالك الأساسى.. سوق الفن غدار.. وعشان تفضل النجم فى ملعبك.. متخرجش بره الملعب.. لأن أى هدف خارج ملعبك هيخسرك أكتر ما يكسبك".
لم يحزن محمود عبد العزيز، فى حياته مثلما حزن على رحيل نور الشريف، الذى كاد أن يكون صديقه الوحيد، رغم أنه كان يعلم مسبقاً بقرب موته، بسبب مرضه السرطانى القاتل، وفى آخر جلسة بينهما قال له "نور": "خلى بالك من البنات يا محمود".
وفى جنازة نور الشريف، كان محمود تائهاً، وجلس على مقعد خشبى واضعاً يديه على رأسه، ولا يريد أن يسلم على أحد، كان يدرك بداخله أن الحياة مجرد سيناريو لابد له من نهاية مهما طالت مشاهده، لكنه احترق نفسياً وشاهد "الفناء" يطول أقرب أصدقائه، فتشكلت بداخله خيوط "الزهد" فى الحياة وقرر انتظار النهاية فى هدوء، ولم يكن يعلم أن الفاصل الزمنى "عام واحد" بين رحيل صديق عمره ورحيله، فتلك الوجوه التى كانت تؤدى واجب العزاء فى نور الشريف عام 2015، هى نفسها التى كانت تعزى فى رحيل محمود عبد العزيز عام 2016.