طباعة
sada-elarab.com/540206
إذا كان قُرابَةُ 40% من الطلاب العرب -تقريبًا- يُغيِّرون كلياتِهم بعد قضاءِ سنوات دراستهم الأولى في الكليات المختلفة؛ فإنَّ ذلك ممَّا يؤكد حاجة الوضع إلى إعادة توجيه منضبط؛ فالعمر أهمُّ وأثمن من أن يَضيع منه عام كامل -وربما أكثر- فقط لاكتشافك أنَّ الدراسة لا تتوافق مع ميولك، أو حتى لتُجرِّبها فتُصيب أو تَخيب!
ولطالما كان الردُّ الجاهز لكثيرٍ من طلاب السنة الأولى بمجرَّد سؤالهم: لماذا وقع اختياركم على هذه الكلية بالذَّات؟ -وبخاصة في الكليات ذات الأعداد الكبيرة كالحقوق والتجارة- فيكون الردُّ المُحزن بأنَّ مكتب التنسيق هو مَنْ تَولَّى الاختيار!
وأبعد من ذلك: فكَمْ مِنْ أُناسٍ تركوا العمل بالطبِّ والهندسة وغيرهما باختيارهم بعدما لم يجدوا أنفسهم في هذه المهن، وللأسف ربما بعد سنوات من تخرجهم.
وفي ضوء هذه المعطيات لَزَمَتْ هذه الوقفة وفي هذا الوقت تحديدًا.
وبدايةً: تَناسى -أيُّها الطالب الباحث عن الكلية المناسبة- مجموعك مؤقَّتًا، ثمَّ حَدِّد ميولك ورغباتك ونقاط قوَّتك وضعفك بحياديَّة، ثمَّ ابحث عن الكلية التي تتَّفق مع هذه المعطيات، وحينها فقط ابحث عن الكلية التي وقع اختيارك عليها ومدى تناسبها مع مجموعك؛ فهذا هو الترتيب القويم لا العكس.
استمعْ بحرص لنصيحة من سبقوك؛ فاستشارتهم والاستفادة من تجاربهم يُقصِّر عليك المسافات لا شك؛ ولا مانع من زيارة الكلية التي تريد الالتحاق بها، وتستمع لطلابها أو لخريجيها، بل وتدخل مكتبتها وتتصفَّح موادَّها العلمية وتنظر فيها، وبالطبع ليس شرطًا أن يكون أيٌّ من أفراد أسرتك أو عائلتك قد التحق بالكلية ذاتها.
اختر لنفسك مجالًا تُحبُّه وترى نفسك فيه، ولو كان لكليَّةٍ تتطلَّب مجموعًا أقلَّ مما حصلتَ عليه في الثانوية العامة؛ فالالتحاق بكلية من كليات القمَّة لعلوِّ مجموعها -مع تحفظي على هذه التسمية– لا يُعطيها ألبتة أفضليةً على غيرها، فالتفوق في المجال الذي اخترته لنفسك وخَلْقِ مجال عمل تُحبُّه وتجد نفسك فيه ويجدُ فيك مجتمعك ما يصبو إليه: هو ما يُعطيك الأفضليَّة.
وها قد قامت بعض الكُليَّات بالفعل في اختيار منتسبيها واشتراط ضرورة إجراء اختبارات قدراتٍ تَسْبِق قَبُولهم بالكليات.
ولنفترض سويًّا أنَّ طالبًا يُؤهِّله مجموعه ليلتحق بكلية الطب، ولكن رغبته هي أن يلتحق بكلية العلوم؛ ليصيرَ مخترعًا أو عالمًا يفيد العالم بأبحاثه، أو يريد دخول كلية التربية بما لديه من مقوِّمات تُساعده أن يقود مجتمعه بما لديه من إبداعات وقدرات تربوية؛ ففي هذا المثال إذا وقع اختيار الطالب على كليَّة الطب فسيكون قد حرم نفسه قبل مجتمعه من أن يكون كما أراد هو لنفسه لا كما أراد الناس له، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة.
اِسْعَ دومًا لتكون مميَّزًا؛ فالتميُّز ليس في دخولك أعلى الكليات بل ربما في أقلها مجموعًا، لكن رغبتك الصادقة وعزيمتك المتوقدة هي التي تجعلها أفضل الكليات؛ وتيقَّن أنَّ اختلاف القدرات فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولا يُقلِّل ذلك منك في شيء، بل هي دليل تميُّزك في شيء آخر؛ وثِقْ أنَّ اعترافك بمستوى قدراتك واختيارك لكلية تتفق مع قدراتك العقلية ورغباتك وميولك العلمية يعني أنَّك قد خطوت أولى خطوات النجاح.
كُنْ يَقِظًا وتنبَّأ بمدى اتفاق ميولك وأهدافك مع احتياجات سوق العمل، ثم وجِّهها صوب الأفضل؛ فهذا أولى وخير لك من أن تَدْخُل أعلى الكليات ثمَّ تصير واحدًا من آلاف الخريجين الذين اكتظَّ بهم سوق العمل فعليًّا.
وتأكَّد أنَّ التفوق في الثانوية العامة ليس معيارًا ألبتة لاستمرار التفوق في الكليَّة، والعكس صحيح؛ فكم من أناس دخلوا كليات بمجموع ليس بالكبير وأثبتوا فيها تفوقهم وبشهادة الجميع، رغم أنَّهم لم يكونوا من المتفوقين في الثانوية العامة.
تذكَّر أنَّها خطوات بسيطة تَفْصِلُكَ عن مجمل مصير حياتك العملية، بل والشخصية التي ستعيشها بقيَّة حياتك، فاجتهد وكثِّف جهودك لتُحسِن الاختيار؛ واعلم أنَّ مصطلحي كليات القمة أو كليات القاع قد ولَّى؛ فالقمَّة والقاع الآن تعود على المصير الذي سيؤول إليه حالُكَ بعد اختيارك للكليَّة المناسبة، الممزوج بالإرادة والإصرار وبالحبِّ والرغبة الفعلية في تحقيق الذات والإنجاز.
وها قد وُضِعَتْ المعادلة كاملة أمامك والاختيار لك..
وأخيرًا: نقِّ ذهنك، وفكِّر بتأنٍ ورويَّة وتدبُّر، ودَعْكَ من التوتر والخوف، ثمَّ أحسن الاختيار القويم الذي تُسعِدْ به نفسَكَ وأهلك ومجتمعك وعالمك.
وثِقْ أنَّ الثانوية العامة ليست هي نهاية المطاف بل بدايته، ومجموع الثانوية العامة ليس هو المحدِّد للمصير بل اختيارك هو المحدِّد..
ولا تبحَثْ عن الألقاب بل ابحث عن نفسك أين تُوجِّهُها؟
الدكتورة هايدي عيسى.. مدرس القانون الدولي الخاص كلية الحقوق - جامعة القاهرة