ملفات
"25 يناير".. ملحمة وطنية للشرطة المصرية تزهو على صفحات التاريخ
وكأن التاريخ يعيد نفسه.. وكأن الأقدار هى ذاتها، تتقلب فوق صفحاته .. تاريخ ليس كأى تاريخ ..يشبه ملحمة لا تنتهى، وأقدار ليست ككل الأقدار، مدهشة بحفاظها على استقامة خط بطولات الشرطة المصرية، منذ يوم 25 يناير عام 1952 بالإسماعيلية ..فى ذلك الوقت،دون التاريخ واحدة من الملاحم التى سطرها رجال الشرطة بدمائهم،وهى بطولة الإسماعيلية،عندما استشهد فى ذلك اليوم حوالى 50 بطلا من أبطال الشرطة المصرية، وأصيب 80 آخرون، لتزهو سيرتهم العطرة فى تاريخ مصر الحديث.
لقد مر خط بطولات الشرطة بمحطات عديدة،
حاملا رجال الشرطة المصرية من ملحمة الى أخرى، جد بلا هزل ، وجلد بلا تراخى، وتصميم
بلا وهن، ليحملهم من بطولة إلى بطولة، وما نراه اليوم هو امتداد طبيعى لنسق لا يحيد
عن ما طوته ثنايا أقدار رجال الشرطة فى شجاعة وعزم ينبع عن عقيدةٍ وإيمانٍ راسخٍ برسالتهم
السامية لتحقيق أمن واستقرار البلاد، من خلال التصدى لكافة صور الخروج على القانون
والمواجهات الحاسمة للتشكيلات العصابية والمداهمات المتواصلة لبؤر الإجرام والحملات
الأمنية المستمرة لضبط الهاربين من السجون وحائزى الأسلحة النارية غير المرخصة.
وتتوالى المحن، لكن عزيمة الشرطة تبقى متقدة
فى جنبات الوطن، رغم الدماء التى تسيل، فخلال عام 2016 وحده، سطرت الشرطة ملحمة جديدة
.. تمثلت فى 152 شهيداً أو عريسا كما يحبون أن يطلق عليهم رجال من خيرة أبناء الوطن،
وهم 35 ضابطا، و58 فرد شرطة، و10 خفراء، و48 مجندا، وموظف مدنى واحد، بالإضافة إلى
ألفين و323 مصاباً، شملوا 452 ضابطا، و846 فرد شرطة، ونحو ألف و21 مجندا و4 موظفين
مدنيين ... دماء تجوب شقوق الأرض وثنايا الرمال، فتنبت أزهارا وخيرا وأمانا لأهالى
أرض الكنانة.
وها هى الذكرى تعود، إلى الصفحات الأولى
فى تاريخ ملاحم الشرطة المصرية .. "موقعة الإسماعيلية"، وهى البطولة التى
وقعت فى 25 يناير عام 1952، وراح ضحيتها 50 شهيدا و80 جريحًا من رجال الشرطة المصرية
علي يد الاحتلال الإنجليزى، بعد أن رفض رجال الشرطة تسليم سلاحهم وإخلاء مبني المحافظة
للاحتلال الإنجليزي.
فى تلك الأثناء كانت منطقة القناة تحت سيطرة
القوات البريطانية بمقتضى اتفاقية 1936، والتي كان بمقتضاها أن تنسحب القوات البريطانية
إلى محافظات القناة فقط دون أى شبر فى القطر المصرى، فلجأ المصريون إلى تنفيذ هجمات
فدائية ضد القوات البريطانية داخل منطقة القناة، وكبدتها خسائر بشرية ومادية ومعنوية
فادحة؛ وذلك كان يتم بالتنسيق مع أجهزة الدولة فى ذلك الوقت.
كان الفدائيون ينسقون مع رجال الشرطة لشن
هجمات فعالة وقاسمة ضد القوات البريطانية، وهو ما فطن له البريطانيون؛ حيث قاموا بترحيل
المصريين الذين كانوا يسكنون الحى البلدى فى الإسماعيلية، بينما كانوا هم يسكنون الحى
الأفرنجى؛ وذلك للحد من عملياتهم البطولية ضد قواتهم، ولكن ذلك لم يؤثر على الفدائيين
وزادت هجماتهم شراسة، وذلك بالتنسيق مع قوات الشرطة المصرية.
فطنت القوات البريطانية بأن رجال الشرطة
يساعدون الفدائيين، فقررت خروج كافة أفراد الشرطة المصرية من مدن القناة، على أن يكون
ذلك فى فجر يوم 25 يناير 1952، وفوجىء رجال الشرطة بعد وصولهم إلى مقر عملهم فى مبنى
محافظة الإسماعيلية، بقوات الاحتلال البريطانى تطالب اليوزباشى مصطفى رفعت قائد بلوكات
النظام المتواجدة بمبنى محافظة الإسماعيلية، بإخلاء مبنى المحافظة خلال 5 دقائق، وترك
أسلحتهم بداخل المبنى، وحذروهم بمهاجمة المبنى فى حالة عدم استجابتهم للتعليمات، وهو
ما رفضه رجال الشرطة الأبطال وقرروا الدفاع عن موقعهم حتى آخر طلقة بحوزتهم.
وبدأت المعركة من خلال قيام القوات البريطانية
بإطلاق قذيفة دبابة أدت إلى تدمير غرفة الاتصال "السويتش" بالمبنى، وأسفر
عن استشهاد عامل التليفون، لتبدأ المعركة بقوة، والتى شهدت فى بدايتها إصابة العشرات
من رجال الشرطة واستشهاد آخرين، فخرج اليوزباشى مصطفى رفعت قائد قوة بلوكات النظام
المتواجدة داخل مبنى المحافظة إلى ضابط الاحتلال البريطانى فى مشهد يعكس مدى جسارة
وشجاعة رجل الشرطة المصرى، فتوقفت الاشتباكات ظنا من قوات الاحتلال بأن رجال الشرطة
سيستسلمون، ولكنهم فوجئوا بأن اليوزباشى مصطفى رفعت يطلب الاتيان بسيارات الإسعاف لعلاج
المصابين وإخلائهم قبل استكمال المعركة، ولكنهم رفضوا واشترطوا خروج الجميع أولا والاستسلام،
وهو ما رفضه اليوزباشى مصطفى رفعت وعاد إلى جنوده لاستكمال معركة الشرف والكرامة، والتى
لم يغب عنها أيضا أهالى الإسماعيلية الشرفاء؛ حيث كانوا يتسللون إلى مبنى المحافظة
لتوفير الغذاء والذخيرة والسلاح، رغم حصار دبابات الاحتلال للمبنى.
ومع استمرار الاشتباكات، بدأت الذخيرة فى
النفاد من رجال الشرطة المصرية، ولكنهم رفضوا أيضا مجرد فكرة الاستسلام، فقرأوا جميعا
فاتحة كتاب الله والشهادتين، بما فيهم الضابط المسيحى اليوزباشى عبدالمسيح فى لحظة
تؤكد مدى تماسك ووحدة شعب مصر العظيم، وقرروا القتال حتى آخر طلقة، وقرر اليوزباشى
مصطفى رفعت الخروج من المبنى لقتل قائد قوات الاحتلال (اكس هام) أملا منه فى أن يؤدى
ذلك إلى فك الحصار وإنقاذ زملائه ... وبالفعل عندما خرج، توقف الضرب كالعادة، ولكنه
فوجىء بضابط آخر أعلى رتبة من (اكس هام)، وبمجرد أن رأى هذا الضابط اليوزباشى مصطفى
رفعت، أدى له التحية العسكرية، فما كان من اليوزباشى رفعت إلا أن يبادله التحية، وتبين
بعد ذلك أن ذلك الضابط هو الجنرال ماتيوس قائد قوات الاحتلال البريطانى في منطقة القناة
بالكامل.
وتحدث الجنرال ماتيوس إلى اليوزباشى مصطفى
رفعت، وقال له بأنهم فعلوا ماعليهم بل أكثر، وأنهم وقفوا ودافعوا عن مبنى المحافظة
ببطولة لم تحدث من قبل، وأنهم أظهروا مهارة غير عادية باستخدامهم البنادق التي معهم،
ووقوفهم بها أمام دبابات وأسلحة الجيش البريطانى المتعددة، وأنه لا مفر من وقف المعركة
بشرف، فوافق اليوزباشى مصطفى رفعت على ذلك مع الموافقة على شروطه، وهى أن يتم نقل المصابين
والإتيان بالإسعاف لهم، وأن الجنود التي تخرج من المبنى لن ترفع يديها على رأسها وتخرج
بشكل عسكري يليق بها .. فوافق الجنرال ماتيوس على تلك الشروط وتم خروج قوات الشرطة
بشكل يليق بهم وهم فى طابور منظم.
وأسفرت تلك الملحمة التاريخية للشرطة المصرية
عن استشهاد نحو 50 من رجال الشرطة وإصابة 80 آخرين، فاستحقت أن تكون ليست يوما فقط
أو عيدا للشرطة المصرية، ولكنها أصبحت عيدا قوميا لمحافظة الإسماعيلية وللشعب المصرى
كله .. فتحية إلى أبطال يؤدون واجبهم ويضحون بالغالى والنفيس من أجل رفعة هذا الوطن،
وتحقيق أمن وسلامة مواطنيه .. أبطال كانوا ومازالوا وسيظلوا على عهدهم دائما بالتضحية
بأرواحهم من أجل حفظ مقدرات أرض الكنانة ..لكن أقدار الرجال الذين ترعرعوا على قسوة
المحن وارتووا من عبر تاريخ أسلافهم تضعهم دائما فى اختبارات .. اختبارات تثبت كل يوم
أن كل جولة جديدة هى درس جديد فى العزة والوطنية والتضحية لآداء رسالة الأمن النبيلة.